مختار محمد أحمدو (*)
المنصفون حينما ينزعون إلى تناول مسألة ما، يتجردون من أيديولوجياتهم وظلالهم الذاتية لكنني لا أفعل؛ لأن جذور أيديولوجياتي وظلالي الذاتية كوني متجرد سلفا.
مما ذلك أجدني لا أجد ترددا في قراءتي لبيت من نص "الرائي"، رغم أني يشاطرني صاحبه طاولة في مقهى "المعاصرة حجاب"؛ إنني أؤمن بهذه النظرية بيد أني لا أمارسها أو لا تمارسني.
وحسبي في ذلك أن سبقني إلى قراءته د. الناقد المفكر عبد الله السيد الذي يبدو أنه لا يمارسها أيضا ولا غرو.
"الرائي"/القصيدة
تخرم جبة الصمت مراودة التراكمات والإفرازات التي اعترت العالم بفعل الكارثة Covid-19" " وتستكنه ما ورائياتها في أسئلة "فلسشعرية" أعتبرها أهم من الأجوبة كما هي حال الأسئلة الفلسفية.
الموضوع/ البيت:
في "سؤالين" ،كيف وا أسفاه،
تشرق الشمس فوق كل العيوب.
المختار/السالم.
في الشعر الاحتمالات لا تعرف لون الوصيد؛ الاحتمالات مفتوحة..
وكل شيء في الشعر ناقص إلا "الحقيقة"/الدهشة، إذن هذا يعلن أن المأساة/الحزن في الشعر ناقص؟
لا، بتاتا؛ إنه - في الشعر- زائد.
أما في هذا البيت نلفي الشاعر ينحت "سؤالين" كبيرين تامين؛
إذ الأسئلة جزء من الدهشة، وما ينطبق على كل ينطبق على جزئه!
سؤالان يختزلان أبعاد هذه التراجيديا:
كيف سقطت-أو أسقطت-العاصفة على الأرض؟
كيف سينقشع غبارها؟
"لله الأمر من قبل ومن بعد"،
سأكتفي أمام سؤاليه باستكناه صامت؛ كما اكتفيت بقراءة دلالية للبيت.
هذان السؤالان أفضيا إلى سؤال جوهري آخر؛
"كيف، وا أسفاه، تشرق الشمس فوق كل العيوب؟"
من فرط ما آلمه الواقع الذي ضرج قلب الإنسانية بالخدوش ينزع الشاعر الشاعر إلى متر صغير بين "ال كيف" وما تستفهم عنه، كيما يودعه بعضا من شعوره الشاسع المثقل بأتراح سواه..!
مجسدا النظرة النيتشوية "كلما نظر الرجل إلى الحياة بعمق شعر بالحزن أكثر"
وهل شاعر من لا ينظر إلى الحياة بعمق.. يتقصى الكنه أولا؟
يشعر بما يدور في تجاعيد الزمكان..ثانيا؟!
"كيف تشرق الشمس فوق كل العيوب؟"
ما أفسح هذا السؤال! ما أجمل الأسئلة.. ما أتعس الأجوبة!
لا مناص للقارئ من الوقوع في شرك الغموض أمام هذا السؤال الإنساني حرون الجواب..،
سؤال يتمحض لمرام بعيد بعيد عن الوحدات والفونيمات اليومية الممجوجة..، كأن جاكوبسون استلهم منه أن "الأدب عنف منظم يرتكب في حق الخطاب الاعتيادي"
سؤال كبير لا يجترحه إلا كبير.
وملح هذا السؤال غموضه إذ لما كان الواقع - ماهية الكارثة الكوفيدية - غامضا كان الشعر أيضا؛ الشعر جزء من الشاعر، الشاعر كل من الواقع.
أمام هذا الاستفهام أطرق واحدا من تأويلين إما أنه:
1--تقريعي:
"كيف تشرق الشمس فوق كل العيوب؟"
كيفتشرق الشمس/ الحياة، الترف، الصحة، الأمان، الحرية..
أمام أسراب الجراحات والجوارح (صيادي الحياة) كيف؟
كيف تنثر الضوء وهؤلاء يجمعون الظلام أمام الأمام في عرصات الآمنين؟
كيف يتمنون بزوغ الشمس على أشجار أرض هم يشذبون أغصانها ويبترون جذوعها ويسرقون قنوانها ويخلعون أمانها..؟
كيف يهطل المطر على أرض يغرقون الإنسانية بغدرانها؟
وكيف يعشب التمر في نخلة يعشقون صومها عن البهجة وإمساكها ويخترعون أشواكها؟
هكذا رسم الشاعر مكنوناته في لوحة عتابية تقريعية استنكارية لونها بسؤال شاعر نقطة استفهامه تحيل إلى جزاء المعاتبين:
لن تشرق الشمس ما دمتم تفعلون!
2---اتعاظي تعجبي:
كيف- وا أسفاه، تشرق الشمس فوق كل العيوب؟"
عنبر الشاعر هذا الاستفهام بعقيدته الإسلامية الناصعة في عودة عادلة إلى الذات الجمعية.. معللا الكارثة بما دار وما يدور في "ذات الدوران" ، بخاصة في صدارة هذا القرن-21-،من دمار وحروب ودسائس ودساكر وضيم وسم وحوب..
هذا الركام، هذا الدخان، التشريد، الخراب والصمت عنه،
هذا ما أسميه "الذنب الجماعي" الذي يعتري الأرض..
"الفاعل" فيه يرتدي زي مفعول..
الفاعل يسبق الفعل هنا
و"المفعول به"-عكس ما يراه النحاة- لا يمكن أن يوجد بعد “الفعل"..؛ لأن هذا "الفاعل" يحذفه بممحاة "الفعل".
ولا جرم أن الشاعر هنا ينحاز إلى كل الهامشيين والمضطهدين..
على أني أجزم بانحيازه أكثر "للثالثيين" المغلوبين على أمرهم..،
وينفتح هذا الاحتمال الحدسي أكثر حين نجده يجنح إلى المعجم القرآني " وا أسفاه" في إيحاء إلى قصة الصديق يوسف-عليه السلام- الذي يوازي العالم في النص،
حيث يوسف/الضحية، أمام "عملية الجب “وهو براء..
كأن الشاعر- بعودته ليوسف- يدفعنا للبوح بأسئلتنا الآنية؛
ترى أين "الجب"؟
ترى من رمى يوسف/العالم اليوم، في "الجب؟
وهل من "قميص" يلقى على "يعقوب"/ القلب؟
"وا أسفاه على يوسف"/العالم الثالث والرابع.. أمام اصطدام العظمى.
خلاصة هذا السؤال التعجبي- ولا عجب-يشي بتأمل بديع وإيمان بأن بزوغ الشمس محض رحمة من الله.
إنه سؤال ينادي فيه الشاعر بصمت أن "توبوا إلى الله جميعا "من كل "العيوب"/ المعاصي،
توبوا كي تشرق" الشمس" من جديد!
وهذا نص القصيدة:
ألك الحلم غائما بالنضوب / والرغيف المخضر غب الشحوب
أم ترى موطأ الرحى في الثقوب/ و"الظليم" الوضاء بعد الغروب
أم تلوت الأنفاس توشك أن / تقدح ظل الحبيب بالمحبوب
أم ترى الرمل بعد طين تماهى/في القديد "المسفور" محض الذنوب
كان جرحا للماء دون ضفاف /فلماذا وطئت سيف الهروب
أتزيح انحداره بين وديان /لها الرفع في مرايا الندوب
إن من يسأل الحيارى بهذا/ الواد تمتصه شفاه النضوب
ولقد نحبس الخطى ثملات / الصحو حتى نعز رقيا الدروب
كل من صومع الخصور زمانا /سوف يعطي لنا رواق الطيوب
فإذا ما تثاءب الرمل ينزو / غفوات الريح الكسيح السروب
فالمداءات بالمداءت غرثى/ لا تفي اللحن في وريد النشوب
والسباخ المظللات قفار / حلق الليل حولها بالخطوب
والتلال المقفرة الظل تنآى/ ثم تنآى.. إلى جحيم لعوب
ولها في اليباب روح يباب /ولها حين اللغو صوت النضوب..
أثم الناس ضاقت الأرض إثما/ فدماء الصغار فوق الكعوب..
كل يوم مجازر واحتلال /ومزيد من داهيات الحروب
وترى الأرض مذبحا بيدي/ غاز أكول لحقها وشروب
ومجانين يأكلون تراثا / واغتصابا ونهب رزق الشعوب
ويعيثون في البلاد فسادا/ولهم عزة بإثم الكروب
كلنا إخوة ليوسف..نلهو / بدم جارف القميص كذوب
ومآس على المدى تتوالى/ ضد روح الحياة عند الوثوب
فظلال الأشجار قد جففتها/ كل فأس تغتال روح السهوب
ورئات الثلوج ذابت دموعا / والمحيطات جيفة للرسوب..
في"سؤالين" كيف.. ، وا أسفاه،/ تشرق الشمس فوق كل العيوب..
لم يعد في هذي الدنا فيلسوف/ يعظ الناس في زمان لغوب...
إن قلب الإنسان، والأصل صخر،/صار أقسى، ويا لصخر القلوب..
إنها دمعة المغني إذا ما /خبب الماء في رماد الثقوب
حنن الشعر يا رفيقي حنيفا/ مؤمنا واشد: يا خليقة توبي
واشربي ناقة المدائن شمسا/ وانعمي الريح مالها من هبوب..
إن ظل اليقطين يمتد صحوا / في نداءات كل عبد منيب
إن قلبي يخضر فيها دعاء / واثقا بالله السميع المجيب
غمة اليوم تصبح الغد ذكرى/في أغاني اليمام والعندليب
فاستظلوا مدائن الشعر بوحا/ تفتح الأرض بالزمان الخصيب.
المختار/السالم.
مختار محمد أحمدو
___
(*) شاعر موريتاني