وليفر وندل هولمز
كاتب وطبيب أمريكي، نال الشهرة بفضل مقالاته وقصائده، وقد قام بالتدريس في مدرسة هارفارد الطبية خلال سنوات أعظم نجاح أدبي له، اشتهر بمقولة أن حرية التعبير لاتتضمن حرية الصياح بكلمة "حريق" في مسرح مزدحم
الوفاة: 7 أكتوبر 1894
من أقواله المشهورة:
" عقل المُتعصِّب يُشبِهُ بُؤبُؤ العين ، كلما زاد الضّوءُ المُسلَّطُ عليه
زاد انكِماشُهُ ! "
التّعصُّب :
مجال واسع و مجالاته كثيرة جدا؛ فهناك التعصب الديني و التعصب للون و التعصب للعرق و التعصب للجهة و للدولة و للتيار الفكري، و التعصب الفردي الخاص...
و بهذا يكون التعصب متتالية عامة من الأمراض و الأوهام و التصورات، لا تمكن السيطرة عليها.
حين توضع الأفكار في قالب عام لنقاشها و إبداء الآراء حولها سلبا أو إيجابا، فهي تُشبه اختبارات مجموعة تائهة في غابة و صلت إلى مفترق طرق كبير يتفرع تفرعات صغيرة و كبيرة و متوسطة، و إذا اقترح أحدهم اختيار اتجاه واحد، و طلب من الآخرين إبداء آرائهم و تحليلاتهم للأخطار المحتملة، و أن يكون ذلك بأدلة و مبررات واضحة، و في تلك اللحظة انقسمت المجموعة بعدد الاتجاهات ، و كل واحد يُبدي رأيه و اعتقاده.
فأين يكمُن التّعصب داخل المجموعة الواحدة ؟
أليس الجميع يريد النجاة و الطريق الأكثر أمنا و سلامة؟
من الرابح إن أخذت المجموعة الطريق الخاطئ؟
و هل اختيار رأي فرد يُعطيه استثناءً و يُضفي عليه قداسة؟
ألا يربح الجميع من الرأي الأصوب و الذي يوفر النجاة؟
الفرق بين مثالنا و الواقع ، أننا في المثال أمام هدف حقيقي، يؤدي إلى نجاح أو فشل، أننا أمام آراء مُستقلة عن أصحابها، و بذلك تُصيب و تُخطئ دون ارتباطها بالقائلين، و لا يتحملون سيئاتها و يستفيدون من صوابها، هذا الفرق الكبير الذي جعل مَحَكَّ النتائج عاملَ انتقاء و سلامة، و مبدأ اختبار حقيقي، لا يوجد له مثيل في واقع الحياة ، و لا في الأفكار البعيدة، التي تحتاج حقبا زمنية للتأكد من سلامتها.
ماذا لو أمكننا أن نُطبِّق على المُتعصِّب مبدأه و فكرته؟
ألن يراجعها مرات و مرات و يَفتح الباب واسعا لانتقادها ؟
ألن ينزع عنها تلك الهالة العظيمة من القداسة و الكمال، ما دامت ستُجرَّبُ عليه أولا دون غيره؟
هل كان المتعصبون سيتقدمون بآراء ساذجة و مُتطرِّفة لو وجد مثل هذا العقاب أو الاختبار؟
ماذا لو كان المُتعصب سيخسر نصف ثروته حين تفشل فكرته أمام تصويت مُحلَّفين مجهولين؟
ألن يبحث عن التوازن و الرأي الصائب،و يعود إلى مراجعة التوافق مع المنطق و العقل؟
التعصب يُشبه الحيوانات التي تحترق بالضوء ، لذلك تبحث دائما عن الأماكن القاتمة و المُظلمة، و الثغور البعيدة، فالمتعصب حين يُمنح الفرصة أمام الإعلام لشرح فكرته من جهة نظره الخاصة، و لتوثيق أقواله أمام محكمة العقل في الحاضر و المستقبل،فإنه كلما زاد شرحا زاد سقوطا و تناقضا حتى مع أقواله قبل دقائق، ذلك أن ذاكرة النزوات و التلفيق ضعيفة، و تيارها مُتقطِّع دائما، بينما الحقيقة لا تحتاج جهدا و لا تيارا و لا ذاكرة، فهي مُنسابة مع الطبيعة، و أوامرها مُتطابِقة مع انتظار اللسان، فلا تحدُث فلتاتٌ، و لا سكتتات مُريبة.
يقول الكاتب إن المُتعصب يزداد انكماشا كلما تمت مُساءَلتُه، كلما تعرَّضَ لاختبار حقيقي، كلما تحدث عن الأسباب و الأهداف، كلما وضع تصورا للحلول، لأن نظرة التطور عنده مُشوَّشة، و صورة المستقبل قاتمة.
هناك أنواع من المُتعصبين، فهناك المُتعصِّب المُوَجِّه ، و هذا يعرف هدفه و غاية، و هو أكثر انسجاما مع أفكاره و له القدرة على التطوير و التحوير، و هناك المُتعصب التلميذ المباشر و بقدر قربه من المصدر و المنبع بقدر احتفاظه بشي من الشك و التراجع، و هناك المتعصب البعيد ، فهذا جاهل بالأصل و الهدف،و لا يملك القدرة على التراجع و لا على التغيير ، فهو يجري في مجرى النهر غير مُختار ، و لا يَملِك من الأمر شيئا.
مجالات التعصب و أرضيته المُناسبة تكون دائما تبعا لبعدها عن الواقع ، و صعوبة محاكمتها واقعيا، و تكون في أمور مُستعصية، كأفضلية اللون، و أقدمية القارة، و تاريخ الجهة، و كلها أمور لا يُثبتها دليل و لا رأي، لكنها تصل حد القداسة عند بعض الذين وصلت إليهم مُعلَّبةً محفوظة ، عبر الأجيال و التّوارث الدائم.
و لم تسلم الثقافة، كمسرح و رواية و قصة و كتابة و مقالات و شعر و ترنمات ، من التعصب مرة للشكل و مرة للمضمون و مرة للقالب و مرة لنوعية العَرض و الطرح، و قد وصل بعضها إلى حروب فكرية، تحمل شعار الأصالة و الهوية، و الدفاع المُقدَّس،
فما هو سبب كل ذلك؟
حين يضيق أفقُ الحرية، و تغيب الحقوق و المساواة، و تكون العدالة عرجاء، و يكون الظلم محميا بالقانون، و يكون الجهل فخرا، و الانتماء انتخابا طبيعيا، و التعصب فكرا، و التسامح ضعفا، و العنصرية محافظةً، فماذا يُمكن أن ننتظر من تفاعل هذا الكَمِّ الغريب و المُخيف، غير شبيهٍ له في شكله و جيناته الوراثية، و رؤيته للواقع و المستقبل، و احتمائه بالعِرق و الشكل و الجهة...