استراحة الأحد.. ابن الدمينة: "ديك الجن" الأول..

أحد, 02/23/2020 - 14:12

محمد ناجي أحمدو

 

 

من رقيق الشعر

ابن الدمينة: "ديك الجن" الأول..

قتل زوجته وابنته.. والسبب "خال" في جسد "حماء" وصفه شاعر نذل..

****

هو عبد الله بن الدمينة الخثعمي شاعر بدوي من العصر الأموي، وينادى تلقيبا بأمه الدمينة بنت حذيفة من بني سلول. شاعر و فارس شجاع التحق بالجيش, يقال أنه كان جميل الخلقة, فصيح اللسان، شديد الغيَرة، من شعراء الغزل العفيف العذري، و كل شعره يتغنى بنجد وصباها ونسائمها العليلة، وفي شعره ما يدل على فصاحته وفطرته العذرية. قتل غيلة في نبالة حوالي 130 هـ.

مقاطع من شعره:

...

وَفِى الجِيرةِ الغادِينَ مِن بَطنِ وَجرَةٍ = غُزالٌ أَحَمُّ المُقَلَتينِ رَبيبُ

فَلاَ تَحسَبِى أَنَّ الغَرِيبَ الذِى نَأى = وَلكِنَّ مَن تَنأَينَ عَنهُ غَرِيبُ

****

وله:

ألا يا حمامات اللوى عُدْنَ عودةً.. فإني إلى أصواتكن حزينُ فعدن فلما عدن كدن يمتنني.. وكدت بأسراري لهن أُبين

وعدن بقرقار الهدير كأنما.. شربن حميًّا أو بهن جنون

فلم تر عيني قبلهن حمائما.. بكين ولم تدمع لهن عيون

فكنَّ حماماتٍ جميعا بنعمة.. فأصبحن شتى ما لهن قرين فأصبحن قد فُرِّقن غير حمامة.. لها عند عهد بالحمام رنينُ!

****

وله:

عَدِمتُكِ مِن نَفسِ فَأَنـتِ سَقَيتنِـي.. كُؤُوسَ الرَّدي فِي حُبِّ مَن لَم يُبَالِكِ

وَمَنَّيتِنِي لُقيَـانَ مَن لَسـتُ لاَقِيـاً ..نهَاري وَلاَ لَيلـي ولا بَيـنَ ذَلِـكِ

فَمَا بِكِ مِن صَبرٍ وَلاَ مِـن جَـلادَةٍ..ولاَ مِن عَزاءٍ فَاهلِكِي فِي الهَـوَالِكِ

****

ومن نفس القصيدة:

.. وإِنِّى لأَستَغشِى وَمـا بِـيَ نَعسَـةٌ =وَمـا ذاك إِلاّ أَن يُـلِـمَّ خَيـالُـكِ

وَإِنِّى لأَستَسقِى السَّحابَ لأَرضِكُـم =وَيُعجِبُنِى مَـا أَحسَـنَ اللهُ حالَـكِ

أُحِبُّ الصَّبا إِن كُنتِ مِن قِبَلِ الصَّبا =وَنَجماً مُضِيَّئا طالِعَـا مِـن حِيالِـكِ..

****

ومنها:

أرى الناسَ يرجونَ الربيعَ وإنما ... ربيعي الذي أرجو نوالُ وصالكِ

أرى الناس يخشونَ السنين وإنما ... سنيَّ التي أخشى صروفُ احتمالك

لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالك..

****

ومن شعره:

أَلاَ هَـل مِـن الـبَينِ المُفَرِّقِ مِن بُدِّ .. وَهَـل لِـلَيَالٍ قَـد تَسَلَّفنَ مِن رَدِّ

وَهـل مِـثلُ أََيّـامٍ بِـنَعَفِ سَوِيقَةٍ .. رَوَاجِـعُ أيّـامٍ كـما كُنَّ بالسَّعدِ

وَهـل أَخَوَاكَ اليَومَ إِن قُلتَ عَرِّجا .. عَلَى الأَثلِ مِن وَدّانَ وَالمَشرَبِ البَردِ

مُـقِيمانِ حـتّى يَـقضيا مِـن لُبَانَةٍ.. فَيَستَوجِبَا شكري وَيَستَكمِلاَ حَمدِي..

****

كان الشاعر الرقيق العباس بن الأحنف يطرب ويترنح لشعر ابن الدمينة ، ، واختار له أبو تمام في باب النسيب من ديوان الحماسة ستة مقاطع؛ متقدما على جميع شعراء مدونة الحماسة..

***

كتب الأستاذ محيي الدين اللاذقاني في العدد 8353 من صحيفة " الشرق الأوسط" اللندنية؛ الصادر بتاريخ 11 أكتوبر 2001؛ مقالا رائقا عن الرجل تحت عنوان "الملتبس والمستور في كشف سيرة الشاعر الغيور"؛ هذه مقتطفات منه:

في ليالي الوحدة المديدة اكتشفت حماء زوجة عبد الله بن الدمينة عظمة ان يكون للمرأة رجل يساعدها على تقصير الليل وحصاد النجوم وغرس الاحلام والزهور، وذات لحظة فراغ مهيب قالت لنفسها لأنجب، فالابناء يحفظون غيبة الاب، ويجعلون الام تنسى جسدها بعد ان يصادروا روحها.. وهكذا كان، وليته لم يكن، فقد انجبت حماء من ابن الدمينة طفلة جميلة كشمس صغيرة بكت ثم حبت ثم مشت لكن شيئا من حياة الام لم يتغير، فبعض النساء لسن لتفاصيل الحمل والولادة والمشاغل اليومية الصغيرة، وهذا الصنف نادرا ما يستقر أو يسلو.

ومما زاد في حزن حماء ان ابن الدمينة ذلك الشاعر الغامض والملتبس الذي كانوا يلقبونه (ابو السرى) لم يغير عادات السفر، ولم ينقص من رحلاته بل زادها، فظنت ان عاطفته نحوها قد خمدت كبركان قصير النفس وهكذا بادلته اهمالا باهمال، وحين يموت الحب عند المرأة يصبح كل الرجال سواسية، ولا يظل على عرش القلب غير الفراغ الذي يبحث عن امتلاء وغير الخواء الذي يشبه خواء الصحراء قبل هبوب العواصف.

ولم تخن زوجة ابن الدمينة ـ ان كانت قد خانت فعلا ـ من فراغ، فهناك الوحدة والليل الطويل والشاعر المسافر الذي ما ان يحضر رأسه حتى تغيب قدماه، وفجأة يطل مزاحم السلولي وهو شاعر ايضا، فتختل معادلة الصبر والانتظار، ويأخذ المقيم مكان المسافر الابدي في هذه الحكاية الملتبسة.

ويقول الرواة انه قضى منها وطرا ثم اتخذها وسيلة للنيل من زوجها الشاعر، فالشعراء يغارون من بعضهم بعضا اكثر من غيرة النساء وقد تم له الامر ببساطة مطلقة، فالمجتمعات الراكدة تقبل بنهم على الفضائح والشائعات ولا يضرها صحتها من عدمها، فالفضيحة والشائعة اثارة ذهنية مسلية لقوم يحكون آباطهم غيظا من السأم الرملي، ويتثاءبون ضجرا في الاوقات كلها، وهكذا تصبح الفضيحة بمثابة وليمة مشروعة يهجم عليها الجميع رغبة في الاقتراب من المخفي والمستور، وذلك ليزيدوا ويستزيدوا، ولا حاجة مع هذا النهم لغسل الضمائر والقلوب.

ومما زاد الامر اثارة ان مزاحم السلولي قال قصيدة يذكر فيها علامات من جسد حماء زوجة ابن الدمينة، وهكذا صار أمام المحكمة الشعبية دليل لم يتساءل احد عن صحته فاجساد النساء مكشوفة لأترابهن، وبامكان اي غيورة ان تفتن على من تشاء وتنقل أوصافها لرجل نهم ومكبوت ليتباهى بذلك شعرا ونثرا امام من هم اكثر منه كبتا وجوعا وضجرا.

* رواية الأخفش

* وما العلامات غير تلك الشامات العجيبة التي يعتبرونها من علامات الحسن، وهي كذلك في المخيلة والواقع، وبما انها قليلة ومتناثرة يصبح وجودها في المناطق التي تغطيها الثياب سرا من الأسرار التي لا يطلع عليها غير الزوج والصديقات فهل كانت لحماء المتهمة بالخيانة صديقة خائنة..؟

لا احد يعرف ذلك على وجه التحديد، فالاخفش وابن الاعرابي وغيرهما من المتلمظين بهذه السيرة لا يشيران الى وجود صديقة نقلت خارطة العلامات الجسدية الى السلولي كما فعل شكسبير في مسرحية (سمبلين)، وهكذا يظل الدليل الوحيد على الخيانة الاحتمالية قصائد ذلك الشاعر الوغد الذي صار يعاير ابن الدمينة بزوجته، ونساء قبيلته، وربما لم يكن له منهن ومنها غير التخيل والسماع.

وما دمنا قد وصلنا الى المناطق الحساسة فلنترك علي بن سليمان الاخفش يروي لنا ذلك الفصل بلغة ذلك الزمان... يقول علي.. «ان رجلا من سلول يقال له مزاحم، وكان يرمى بامرأة ابن الدمينة، وكان اسمها حماء، فكان يأتيها، ويتحدث اليها حتى اشتهر ذلك، فمنعه ابن الدمينة من اتيانها واشتد عليها فقال مزاحم يذكر ذلك:

يا ابن الدمينة والأخبار يرفعها.. وخذ النجائب والمحقور يخفيها

يا ابن الدمينة ان تغضب لما فعلت.. فطال خزيك أو تغضب مواليها

أغشى نساء بني تيم اذا هجعت.. عني العيون ولا ابغي مقاريها

كم كاعب من بني تيم قعدت لها.. وعانس حين ذاق النوم حاميها..

وبقية القصيدة..

وقصائد أخرى مختصة في ذكر العلامات والشامات، وكان يمكن القول ان الشاعر يكذب ويقصف المحصنات لولا تلك الادلة الواهية التي غذت فضاء الفضيحة، ويقول ابن الاعرابي وابن حبيب ان ابن الدمينة لما بلغه شعر مزاحم اتى امرأته فقال لها: قد قال فيك هذا الرجل ما قال، وقد بلغك، فقالت: والله ما رأى ذلك مني قط، قال: فمن أين له العلامات، قالت: وصفتها له النساء، فقال: هيهات والله ان يكون ذلك كذلك..

ومنذ تلك المحاورة نصب الشك خيامه وأقام، وقد تكون حماء صادقة في قولها لكن من ينقذ العنق البض في ثورة الشك.. ومن الشاعر الغيور..؟

* ساعة الحسم

* وبما ان ساعة الحسم قد حانت فلنسمعها هذه المرة على لسان ابن الاعرابي الذي سجلها وكأنه كان بين الزوجة والزوج والعشيق ساعة التنفيذ:

يقول ابن الاعرابي: «ثم صبر ابن الدمينة حتى ظهر ان مزاحما قد نسي القصة ثم اعاد عليها ـ امرأته ـ القول واعادت الحلف ان تلك العلامات مما وصفه له النساء، فقال لها: والله لئن لم تمكنيني منه لأقتلنك فعلمت انه سيفعل ذلك فبعثت الى مزاحم وواعدته ليلاً وقعد له ابن الدمينة وصاحب له فجاء للموعد، وجعل يكلمها، وهي مكانها فلم تكلمه، فقال لها: يا حماء ما هذا الجفاء الليلة فقال له ابن الدمينة بصوت ضعيف ادخل، فدخل. فاهوى بيده ليضعها عليها فوضعها على ابن الدمينة، فوثب عليه هو وصاحبه، وقد جعل لها حصى في ثوب، فضرب بها كبده حتى قتله، واخرجه، فطرحه ميتا فجاء أهله، فاحتملوه ولم يجدوا به اثر السلاح فعلموا ان ابن الدمينة قتله، ويواصل ابن الاعرابي روايته:

«ثم اتى ابن الدمينة امرأته فطرح على وجهها قطيفة ثم جلس عليها حتى قتلها، فلما ماتت قال:

اذا قعدت على عرنين جارية فوق القطيفة فادعوا لي بحفار فبكت بنية له منها، فضرب بها الارض، فقتلها، وقال: لا تتخذن من كلب سوء جروا..، فذهبت مثلا».

ولك ان تشك في هذه التفاصيل كلها اكثر مما شك ابن الدمينة بزوجته، فالناس لا يقتلون وهم ينشدون الاشعار ويتمثلون الامثال لكنها عادة الرواة العرب الذين يزخرفون الوقائع على هواهم، ويحشرون القصائد والامثال في كل شيء ولأي سبب لمعرفتهم ان السرد يحتاج الى فواصل هي كل ما يثبت بالذهن، وهي الاعمدة التي تنهض عليها عمارة السارد.

وفي نهاية الشاعر الغيور والقاتل ثلاث روايات تزعم احداها ان السلطان وضعه في سجن تبالة ومن هناك قال ابياته الغزلية الرائعة التي اشرنا اليها في الحلقة الأولى: «هواي مع الركب اليمانين مصعد..» وهي تنسب في بعض الكتب لجعفر بن علبة الحارثي.

* نجد في المنفى

* وتقول رواية أخرى انه فر هاربا بعد ان طاردته سلول لتثأر لمزاحم وغادر نجد نهائيا وفي منفاه قال رائعته الاخرى في الحنين التي تنافس عينية القشيري لوعة واتقانا ومنها:

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد.. فقد زادني مسراك وجدا على وجد..

وثالثة الروايات عن نهاية ابن الدمينة كأنها ثالثة الاثافي، فقد زعموا ان مصعب شقيق مزاحم السلولي رأى ابن الدمينة واقفا ينشد شعرا فغدا الى جزار، فأخذ شفرته ـ ساطوره ـ وعدا على ابن الدمينة فقتله به ثم استسلم للوالي فحكم له بالبراءة.

ويصعب علي وعليك، بعد كل هذا الزمن ان نبحث عن الحقيقة الضائعة بين تلك التراكمات..، وحتى لو كان الأمر سهلا والسجلات محفوظة وموثقة لما نصحتك في ان تتعب نفسك لمعرفة النهاية الفعلية لابن الدمينة فالسجن والنفي والقتل سواء..

اما النهاية الحقيقية المثبتة فقد سجلها الشاعر بنفسه يوم هجم على طفلته البريئة ليقتلها، فامحى بذلك الفروق الدقيقة التي تفصل الانسان عن الوحش ومات انسانيا منذ تلك اللحظة التي اعمته فيها الغيرة عن رؤية الزهور التي تتفتح كل يوم بالرغم من كل ما يحيط بها من اشواك.

ولو خيرت الزهور لنمت في محيط آخر لكن هذا قدرها، وهذا قدر الشاعر الغيور الذي استل غيظه ليدافع عن سمعته، ولو عرف منذ البداية كيف يدافع عن حبه لما وصل وأوصل زوجته وابنته الى ذلك المصير.

والان دعك من روايات سمار الليالي وكن عادلا وسوف تكتشف ان الشاعر قتل نفسه قبل ان يقتل من حوله، فالشك مدمر، والغيرة قاتلة، وكل من يجتمعان عليه لا يبقى امامه حين لا يستطيع لجمهما غير البحث عن قارب يريحه من عذابه الداخلي، وجحيمه النفسي وينقله بعيدا وسريعا الى عالم آخر ليس فيه غيرة ولا شكوك ولا رجال يرهنون شرفهم للشائعات ويقيدونه الى علامات وهمية في أجساد النساء، تنقلها عنهن نساء لدواعي غيرة أشد ضراوة، وفتكا من غيرة الذكور...

انتهى ما نقلنا من مقال اللاذقاني..

****

هذا.. وصلى الله على محمد وٱله وصحبه وسلم..