المصدر: موقع الكتابة الثقافي*https://alketaba.com/
محمد خضير*
(1)
يسير على قدميه، أو يحلّق… يرصد بالمجهر، أو بالعين المجرّدة، لكنه لا يفلتُ خيط الفكرة وهو يقضم فضاء التراكم الذي يجعلك تلحظ بأن الكتابة بالنسبة للشاعر البريكي قضية جديّة إلى حدٍّ بعيد.
في ديوانه الموسوم “عكاز الريح”، وفي اثنتين وثلاثين قصيدة، يقدّم الشاعر محمد البريكي رؤيته الشعرية لتضاريس تجربتة الممتدّة في المكان، والزمان، والذاكرة.
وفي تنوّع ثريّ بالفضاءات الممكنة، والمتخيلة معًا… الفائقة الحساسية، لزوايا النظر في البصر والبصيرة، يتجوّل باحثًا متقصيًا عن فكرةٍ ومعنىً، ومعمارٍ فنيٍّ مسكون بالفرادة، وبالبصمة الخاصة.
“أنا لن أعكّر صفو كتابي الجديد
بما لم أقلْهُ !
عن القلق المتمدّد فوق ضلوع الكلامْ!”
باستهلال قادته قصيدة بلا عنوان؛ يفتح الشاعر ستارة الديوان، ويدعونا لنرى “القلق المتمدّد فوق ضلوع الكلام” القلق سمة إنسان العصر المتغلبة، والطاغية، وهي لهذا السبب قضية الأدب الكبرى، وشاغلة الشعراء والفنانين عمومًا.
وماذا يكون الشعر إن لم يكن صلصالًا شوّتهُ نار القلق والأرق، والتجريب؟
وفي غير موضع وقصيدة، يعود الشاعر ليؤكد تلك الآثار التي تتركها قدم الارتباك فوق رمل الطريق الموارب، وغير المتاح دائمًا أمام إلحاح الأسئلة.
“ومن أينَ جئتُ الآن؟
لا أتذكّرُ!
فكلُّ دروب التّيه في الروح تعبرُ!”.
من قصيدة ” ولست بعيدًا”..
شاعر يعتني بعبارته، ثم يتعهدها حتى ينضج معناها، وتلك العناية تظهر من اختيار العنوان وحتى عبارة الخاتمة.
“بكائية الغيم”، “شارع في موطن الروح”، “ثلاثون فصلًا من القهر”، “ستنتهي الحرب”….
ويتجلّى اشتغال الشاعر على بُنية العبارة في قصائده العمودية بشكل أكثر وأبلغ، فتقرأ في قصيدة “سادن في الأساطير”:
“سرقَ الوقتُ طفلَهُ فتناسى
أنه صار بعد ما شاب طفلا
…
أخذوا التمر من يديه وغابوا
ورَمى الجوع نحو كفيه نخلا”
…
وهو إلى جانب تنوّع المناظير، وزوايا النظر؛ يمتلك تقنيات الغوّاص المحترف في تعامله مع البحر على احتمالاته وتحولاته… وفي بحثه عن المعنى والعبارة، فتجده يعاند الموج العالي تارة، ويستسلم تارة… ويغوص حين يكون الماء عميقًا… ويتأمّل مكنونات القاع…
يستلقي مسترخيًا.. ثم يضبط بوصلة الأشرعة ويواصل.
ولا يعود دائمًا بلؤلؤة.. بل يعود بجثمان لشخص أو لفكرة..
إنها صيرورة متكاملة.. الفكرة.. العبارة.. التساؤل.. القرار.. التردّد.. التأمّل.. العتب.. الألم.. الخذلان.. البداية…
تلك نوافذ؛ أطل من خلالها الشاعر على أوقاته وذاكرته الواقفة على توقيت الحب، والحياة.
فيقول في قصيدة “بكائية الغيم”:
“ولكنَّ دمعي كلما طحتُ قال لي:
توكأ وخذ جرحي يسطّر ما جرى
يطاردنا قبح الإساءات مثلما
يطارد ذئب نعجة تلحق السرى
فحينا ترى هذي السماء حجارة
وحينا ترى الأرواح يغتالها الثرى”
(2)
بيد أن قراءة معمّقة لمجمل قصائد الديوان ستبيّن لماذا وقع اختيار الشاعر على “عكاز الريح” ليكون العتبة…
إنها درّة قصائد الديوان، إنها منتهى تجربة الشاعر، وهو يدرك ذلك تمامًا..
إن اختيار اسم قصيدة ما لتكون عنوانًا للديوان بمثابة رسالة أولى من الشاعر للقارئ، وهي إشارة إلى ما يودّ أن يراه القارئ أولًا…
“عكاز الريح” فضاء ملحمي… وأفق يمتزج المكان فيه بالرؤيا”.
وتحط أجنحة التجربة على أغصان التضاريس -تضاريس المكان- وبناء الشاعر للعلاقة فيه وهو: “كازابلانكا”، و”باب الزيتونة”، “مدينة عقبة”، “الزربية”.
وتستقرئ النبات: الشيح، الريحان، النخيل.
وعناصر المكان: الأكشاك، المقهى، تمثال ابن خلدون، خاصرة الشارع حين “يأتي الضوء ليستلم الوقت!”.
“عكاز الريح” جولة بعين الطائر في مدار بلا أبعاد، يرتدي فيه الشاعر أسمال رحالة مسكون بالغربة، وبالبحث عن بيت للروح المجروحة بثنائية الاغتراب والتوطّن… الدهشة والحنين:
“في الغيمة
حيث الأرض تودِّعُ في عينيَّ الريحانَ
وعطر الشيحْ
ألقيتُ برأسي في المعنى
وعبرتُ إلى قلبي
والساعةُ كاهنة الرحلة
يحملها عكاز الريحْ”.
فماذا أراد الشاعر من الريح حين جعلها عكازًا لكاهنة الرحلة؟
الريح عند المتنبي كانت حصانه.. وللأشرعة محرك السفن.. لكنها في وجهٍ من وُجوهها؛ هواء لا يتكأ عليه، وهي بهذا المعنى تساوي الوهم…
فأيها من معاني الريح أراد الشاعر؟!
حصان المتنبي أم هواء الوهم؟!
“ألقتني نخلة أحلامي في بحركِ..
كان الشباك المطعون بسيف البرد
يلاعب جمرا في قلبي
وأنا ناطور الفكرةِ”.
وهو بأدوات روائي يقص الحكاية، ويسحب المتلقي من يديه كدليل في مدينة لا تكشف محاسنها إلا على ارتباك، وتردّد، وبشكل موارب..
(3)
“والليلُ يغطُّ على خاصرة الشارعِ؟
هل يكفي الكرسيّ جلوسي فوق تخوم الماءِ؟
وهل سمّيتُ الفكرة ليلى؟!”.
حبكة، وقصة رحال… وغربة وحنين، تساؤلات محقونة بالأجوبة..
كأنها علامات على الحجر في درب لا تبدو له نهاية.
فلا أول لدرب الوجود المرتجل في عالم لم يكن يومًا على ما يرام :
“يا سيدة البحر المتمدد عند الباب
يغازل جدران القرية
يلمس وجه الأكشاك
يمر على باب الزيتونة “
مشهدية كتلك التي تلمسها في السينما… وعين هي أقرب إلى كاميرا محمولة… تقرأ الأماكن بحس شاعر… ولا تغفل الألوان… كما لا تكف عن الحركة… حين (يأخذه الموج سريعًا نحو “مدينة عقبة”.
“تمرين عليه
وتلقين البسمة فيً
فترتج ضلوعي”.
(4)
قصائد الديوان وفضاءات النوع:
مفهوم الهارموني في الموسيقى بتعريفه البسيط، هو تناسق المختلفات!
إنه يقوم على توليف دقيق ومحسوب بين أنساق لحنية كل منها مختلف بذاته عن الآخر.. لكنها في مخيلة المايسترو تتفاعل محدثة نسقا مشتركا في تكوين لحن كلي.
ومثل هذا يمكن ملاحظته في الديوان.. هناك على مستوى صنف القصيدة العامودية باستطالاتها الممتدة في التاريخ الثقافي، على ما فيه من ثراء، وهناك قصيدة الشعر الحر، بتجلياتها الحداثية على ما فيها من خصب واحتمالات.
كما هناك وحدة التفعيلة في قصيدة، وتنوعها في أخرى.
بيد أن من يقرأ الديوان كاملا يجد نفسه أمام «هارموني» يمزج بين تلك الأصناف، ببراعة مايسترو هو أقرب إلى حائك محترف، ينسج الخيوط بشكل عفوي، لا صنعة فيه، ولا تكلف.
فلا القصيدة العامودية مغرقة في البنائية القديمة أو التوعّر اللغوي، ولا قصيدة الحر مغتربة في الدلالة، أو التجريد.
وتلك معادلة صعبة التحقق في تجارب كثير من الشعراء.
“لنا خيمة
قال عنها أبي
إنها قصر أحلامه
لا تضم الدواليب والكنبات
بها وجه أمي
وصندوقها فيه شيء من الكحل والأدوية “
…
ففي هذا المقطع من قصيدة «ثلاثون فصلا من القهر» تتجلى حالة الحداثة كما يراها الشاعر عبر توصيف مشهدي عميق الدلالة، في مفردات عادية، بيد أنها في نسقها هنا، تتضمن معنى غير عادي.
…
“وكم عدوت إلى طفلٍ تعلّقَ بي
يشدني من حذائي نحو مدرستي
أخط في السور ما لا يفهمون وقد
كنت المشاغب مزهوا بشيطنتي
وإن رجعت إلى الحارات دندن لي
ناي الرصيف لكي أشدو بدندنتي”
ما الشعر إذا تفلّت من موسيقاه، وانعتق من إيقاعه؟! إنه صوت زلزال الحياة التي نحياها، لكننا لا نشعر باهتزازه إلا في قصائد من هذا النوع الأنيق، والإحساس بالتناغم المتدفق من هذه الموسيقى، يحتاج منا دراسة النشاز كما همسَ الفيلسوف اليوناني بلوتارخس.
……………
*شاعر عربي – الأردن