الأرْض كرة، والدماغ كرة، والقلب شبه كرة، وقد كان التفاعل الخلاق بين هذه الكرات أحد نواميس لعبة الحياة، حيت تتصارع كرة القلب- بما يملأها من عواصف العواطف، وثوائر المشاعر- مع كرة الدماغ- بما يعبئها من قوانين عقلية، وضوابط علمية- حول أيهما يتحكم في الآخر، داخل مملكة الجسد المعمورة بالغرائز الفطرية، المسكونة بالنوازع البيولوجية، ومن ثم تتصارع الكورتان ذاتهما-خارجيا- حول أيهما تتحكم في الكرة الأرضية نفسها تدبيرا وتسييرا، لكن المؤسف اليوم أن كرة تافهة من البلاستيك، معبأة الفراغ بنفخة من الريح، أصبحت سيدة الكرات كلها، فهي تسيطر على كرات الأدمغة بكل ما تكتنزه من أفكار، ونظريات، وعلوم نافعة، وتسلب كرات القلوب، بكل ما تضج به من مشاعر، وأحاسيس.. وبهذا استطاعت أيضا أن تتحكم في الكرة الأرضية، محدثة انقلابا كونيا في القيم والمفاهيم، والسلوك، حيث جعلت عاليها سافلها، واضعة كل كرات الوجود العليا، لعبة تترَاكَلُها الأرْجُل.. بدون شفقة ولا تقدير... إنه عصر مجنون تشيَّأتْ فيه الروحانيات، وتسلَّعَت القيم، وفقد رأس المال الرمزي رمزيته، بعدما سادت ثقافة الجسد، بكل تجلياتها، واستبدت الماديات، بالذهنية العامة، حتى أن لاعبي الكرة -رغم شغف العالم بهم، ومبالغته في تقديرهم- لا يعاملون إلا بمعجم أسواق النخاسة، في القرون الوسطى، حيث لا ينفكُّ الحديث يدور عن أسعار صفقات بيعهم، عبر المزايدات بين هذا الفريق وذاك
وهذا ما جعلني أخلص في نهاية مقالي حول "البنك الدولي للعقول"، إلى أن" سوق العقول- في هذا الزمن الرديء – أصبحت بائرة، لدرجة أن السجال تحول من الجدل بين "العقل والنقل" قديما، بدون ترجيح نهائي، إلى سجال جديد بين "العقل والرِّجْل"، حُسم فيه النزاع بتفضيل الأقدام على الأفهام، ورجحان "الجسم على العلم"، حتى أضحت ركلات اللاعبين، وتراقص الفنانات- بضع دقائق- فوق المسارح، تكافأ بالملايين، وتُجْنَى منها المليارات، في وقت يموت فيه العلماء والأدباء جوعا، ولا يَتَلَقَّوْنَ- مقابل عصارة أفكارهم، ورحيق آدابهم وأشعارهم- إلا "دراهم معدودة"، إنْ وجدتْ أصلا، لأن الجميع في إبداعهم من الزاهدين...
أن تكريس نماذج لاعبي كرة القدم، والراقصات.. وإعْلاء شأن أرْجُلِ هؤلاء على أدْمِغَة صفْوة العلماء، والعباقرة الملهمين، وإغْلاء تَرَنُّح أولئك على خيرة الفنون الإنسانية الرائعة.. سيكرسهما قدوتيْن.. للأجيال الناشئة، بحيث لن يتمنَّى أي منها أن يكون له عقل كبير، ومواهب فنية عالية، ومهارات معرفية عديدة، ومنظومة أخلاقية رفيعة، بقدر ما سيتمنى أن تكون له رِجْل راكلة، أو راكضة، أو راقصة...أو...
ومهما يكن فإن خلاصة الخلاصة: أن العقول- في هذا العصر المقْلوب رأسا على عقب- لن يُحْتاج إليها أكثر من فترة كهذه، يسودها السفه والنزق والجنون، ويقود الجهل سفينتها الجانحة، في بحر لُجِّي من الأحداث المتلاطمة، كما أن الفنون الجميلة لن تفتقر إليها الأرواح، أكثر منها الآن، حيث يعتبر الهذيان شعرا.. والنعيق غناء.. وتلوِّى الأفاعي، وتقافزُ القردة رقصا.. إننا بحاجة -فعلا- إلى" الأمن الذوقي" حسب عنوان مقال سابق لي، بل يمكن أن أضيف أيضا حاجتنا إلى "الأمن العقلي".. ضد سيادة الأرجل.