في 5 من مارس سنة 1980قادني الاهتمام الطاغي برواية الاخبار الشفهية، إلى مقابلة عدة أشخاص، وأنا حينها شاب غر، يتملكني الفضول الجارف باخذ الشهادات من الشيوخ، حيث اسعفني الحظ بمقابلة عدد من الافذاذ من بينهم كل من: عبد الرحمن ولد بكار ولد اسويد أحمد، والمجاهد محمد ولد الصفره الإديشلاوي، والفنان أحمد ولد أحمد زيدان ولد بوب جدو، والسيد محمد يحي ولد التيس العبد اللاوي، ومحمد عبد الله ولد اعلي سالم الكبير (دالله)، وبوبكر ولد البيكم، العائديان. وآخرين عديدين، واستفدت من هؤلاء السادة استفادات محورية كل في مجاله، دونتها وحضرت في بعض الدراسات والاستيحاءات التي قمت بها.
إن شهادات الأشخاص الأصلاء، شهود العيان، شهادات لا تقدر بثمن، فمنهايفوح عبير الصدق، وعفوية الحياد، والشجاعة الأدبية، وغياب الأغراض الذاتية. فالشاهد يشهد على نفسه دون أي تحرج، وهذا جوهري في تقويم الرواية. ومن المهم حسب التجربة ان تكون لدى الباحث تقنية السؤال الذي يحفز الإجابة المطلوبة، لأن هؤلاء لايجيبونك أحيانا كثيرة إلا عما سألت عنه.
شهادة الدان عن المجاهد بكار.
زرت حلة الدان العامرة ابتداء من 4 مارس 1980م، وغادرتها يوم. 7 من نفس الشهر، وتلقيت حفاوة كبيرة بعد تحقيق سريع و مهذب من بعض المعاونين في هويتي بشكل تقليدي موسع، وغرضي من زيارة المحلة، وبعد نقل التقريرالكامل عني للأمير عبد الرحمن استدعاني.
كان شيخا اسمر، في حمرة، شديد المهابة، ينظر نظرات نافذة ثابتة، تنضح ملامحه بالثقة الكاملة في النفس، ويتحدث بهدوء تسبح فيه صرامة تؤدي إلى استيعاب كل حرف من كلماته على حدة. فرغم انه لايرفع صوته إلا أنك تسمعه بصورة جيدة وتفهمه بما يتضمن حديثه من تلميحات وإشارات مقتبضة، تنقلك من دارج الحديث إلى أسلوب لم يعد متداولا، يفرض عليك وتيرة خارج الزمن الذي تعيشه.
الحاضرون كلهم يطأطئون رؤوسهم ويستمعون وكان على رؤوسهم الطير. لذا فإنك تسمع طنين الذباب في الحرم كله. كان جالسا على سرير من جريد الدوم، افرش بسجادة جلدية منمقة. رجل مديد القامة حقيقة، يسبغه رونق العافية، أليف التقاسيم، تحوم حوله مهابة لا تكلف فيها، يتواصل من خلالها مع محيطه بصورة خفية عبر الإشارة والتلميح.
اما انا فقد كان علي أن ابذل جهدا فائقا كي أتكيف مع الظرف الجديد علي كلية، وأسبح في اللجة التي لم أعهدها، وبشروطها، دون ان أتخلى عن تحقيق غايتي التي أتت بي إلى هنا. لقد كان كل التركيز من الامير ومجلسه علي، وأشعرني هذا بوطأة الموقف، إلى درجة أنني لجات إلى ما يتمتع به شباب نواكشوط حينها من جسارة ناتجة عن النقاش الدائم مع الكبار في كل موضوع، ودون أن أتخلى عن كل رصيدي من احترام الكبار الذي عهدته صغيرا.
تحركت في المسافة المتاحة في خط الأفق الفاصل بين الواقع المحيط بي، وما املكه من عادات مختلطة، وبدأت الجلسة في هذه الظروف بعد انفراج ادت إليه العناية التي اولاني إياها هذا الامير المهاب الذي لايوحي حديثه أوتصرفه بأي نوع من الشعور بالنقص، اوطلب المزيد على ما حصل عليه بعد من رصيد معنوي ومادي.
سألني عن أكابر الأهل، و هل لايزالون زوايا، وماهي محاظرهم الأكثر ارتيادا، وسالني عن خال لي يدعى محمد الأمين ولد أحمد عالم، وصفه بالكرم، كان ينزل عنده احيانا في كيهيدي، وسالني عن اهل أحمذيه، الشيخ محمد عبدالله واحمدو و محمد محمود، وذريتهم، وسالني عن محمدو نانه ولد المعلا، ومحمد ولد آبوه، وأبناء خالته من اولاد الشيخ الحسن. فسالته بفضول كيف ذلك؟ فقال لي إن والدته اتليله بنت اميسه شقيقة مريم ام عيسى ولد الشيخ الحسن وإخوته. وأفادني بهذه القرابة التي لم اكن على علم بها من قبل.
طلب مني ان اساله عما اريد، فقلت له إني أريد منه ان يحدثني عن والده بكار، فأزاح وسادته من تحت ركبته واستند إليها بمرفقه، قائلا: تعني "اگيه"؟ فلم استوعب، فاعدت: أعني بكار ولد اسويد أحمد، لأنني لم اسمع لقب اگيه من قبل.. فقال لي: هو عينه. بكار، لقد وجد إمارة أبكاك متنازعة، وكان كثير الخروج إلى البراري وهو صغير، ولم يكن احد يعتني به، ولم يكن هو يحلم بالإمارة. كانت عيون أهله تقتحمه، وكانوا يصغرون اسمه فيدعونه، ابكيكير، لكنه ابان عن قوة الشكيمة وهو صغير، ومن امثلة ذلك انه خرج مع الاطفال يوما لصيد الضباب في البرية، فانفرد عنهم وهو يطارد ضبا، والتحق به وقد ادخل رأسه وصدره في جحره، والضب قوي الاضلاع لأنها متجهة إلى الامام، وينتفخ في جحره فلا يستطيع أحد مهما كانت قوته أن يسحبه من جحره بذيله، ولذا بقي بكار ممسكا بذيل الضب حتى ذهب عنه الأطفال. وكانت تگانت كثيرة السباع في ذلك العهد، فخرج الفرسان يبحثون عنه ولم يعثروا عليه إلا في صباح الغد، فوجدوه يمسك بذيل الضب، فانتهروه ولاموه، وقالوا له اطلق ذيل الضب وهيا نعود.
فقال لهم: لن أحرره، لكن هدموا لي جحره ففعلوا وأخذ الضب وذبحه وذهب معهم وهو يحمله في يده. فسألوه: لم تخاطر بحياتك من أجل ضب سخيف؟ فأجابهم: حتى لا تعهد مني ضباب تگانت أن أطلق سراحها كلما ادخلت رؤوسها في الجحور. واعتبرها الكبار علامة لزعامته.
وإذ ساءت أحوال ابكاك وكثرت خلافاتهم سألوا بعض الحكماء وأهل الرأي والبصيرة من الزوايا الأولين العارفين فوصف لهم صفات إن امروا صاحبها صلح امرهم، فأمروا بكار لأنه يتصف بتلك الصفات، وكان ساعتها يلتقط النبق من تحت سدرة وطفاء مع اترابه، فلما قدموا عليه بخيلهم ورجلهم نادوه: ابكيكير، لقد أصبحت اميرا على أبكاك. فقال لهم: ارفعوا عني أغصان السدرة. فردوا عليه: اخرج منها كما دخلتها. فأجابهم: دخلت تحتها وأنا ابكيكير وساخرج منها بكار أمير ادوعيش. ارفعوا عني أغصان السدرة وإلا بطشت بكم. فرفعوها عنه، ولم يزل منذ ذلك اليوم سيدهم المطاع بدون منازع، وفارسهم الشجاع، ومدبرهم الكبير على مدى سبعين سنة او اكثر.
عرف عنهوالعدل والرأفة بالزوايا، وحمايتهم، والوقوف في وجه الإمارات الأخرى، وتدبير المكائد ضد خصومه، وكثرة الغزوات خارج تگانت، وقد هزم في معارك وحملات عديدة ولكنه هزم خصومه هزائم اكثر، وكاد لهم مكائد شديدة اودت ببعضهم أحيانا كثيرة، وبالقابل نجا من كل مكائدهم لأنه كان عادلا بين أهله وإمارته، ضاربا على أيدي الظلمة منهم، سخيا متصدقا على الضعفاء، وأوثر عنه انه كان يردد لما كبر إلى حوالي المائة سنة: لم تتركنا الصدقة حتى أصبحنا على ما نحن عليه من ضعف لطول اعمارنا.
كان بكار قوي البنية شجاعا خبيرا في تخطيط الحروب، وهو الذي قال:" إن الشر خرفي" (الحرب في فصل الخصب) حيث تقوي الإبل والخيل. ولكنه مع ذلك إذا كان يريد ان يشن حربا على بعض خصومه اعتنى بالخيل، حتى تسمن في فصل الصيف فيشن الحرب على خصمه وخيله عجاف فينتصر عليه. لم تبق إمارة من المغافرة إلا وشن عليها حربا، اوخاضها معها، ولايشبهه في ذلك إلا جده محمد ولد محمد شين ولد بكار الكبير ولد اعمر ولد محمد بن خونا. كان معتزا بأصوله المرابطية، ويفخر على امراء حسان بأننا كنا فاتحين في المنطقة كلها.
وعموما كان يكره النصاري لوجه الله. ولذا ناصبهم العداء مبكرا، وعقد معهم بعض المصالحات التي درت عليه فوائد كبيرة، ولكنه لم يطأوا ارضه محاربين إلا عند دخول كبلاني.
اما عن دخول هذا النصراني إلى تجگجه فجيش بكار بقيادة من ابنائه الكبار كان يقاتلهم على حدود النهر، لأنهم لما دخلوا البراكنه تسللوا إلي تگانت ملتفين على مداخلها التي كنا نرابط فيها، وعندما علمنا بخبر وصولهم إلى "اكصر تيجگجه، وقد. دلهم عليها بعض اهل المنطقة (سماهم لي)، بدأ بكار بالانسحاب من اگانت للاحتماء في منطقة أفله، وكان معه مفارز من الجيش، ولم تكن حاضرة عند الاشتباك الصباحي الذي اصيب فيه بكار.
لقد هاجم الفرنسيون فجرا المحلة، بعد إخبارهم بمكانها من طرف شخص ظل مع بكار وأعطاه جملا من خير جماله، وهو نفسه من دل عليه الفرنسيين.، غدرا منه وسوء طوية، طمعا في المال ولكنه لم يحصل عليه، واغتصب منه الجمل بعد ذلك.
لقد كان الهجوم مباغتا وعندما سمع الجيش أصوات البنادق وبو تاسارت اسرجنا الخيل واقبلنا لكننا وجدنا الفرنسيين قد خرجو من المحلة، وساقوا بقرا لاهل عبد الواحد، فتبعناهم، وادركانهم وقد غذوا السير فلما رأينا ياقاتهم وشاراتهم البراقة تلمع تحت اشعة الشمس حاولنا ان نهاجمهم بالخيل فصلونا برشاشهم وبنادقهم البعيدة المدي، فكان الاشتباك معهم مستحيلا بتلك الحالة، وعدنا إلى المحلة. كان بكار مصابا في اصل فخذه برصاصة واحدة ولكنها تنزف نزيفا خفيفا. ولذا قال له أحد الرجال:"اگيه" يبدو ان إصابتك ليست خطيرة لله الحمد، فرد عليه "اگيه": صدق المثل القائل: الحسد كله في ابن العم. انا شيخ في المائة من عمري وتحسد لي ان أستشهد على أيدي أعداء الله ورسوله، مقبلا غير مدبر؟
امر ابناءه الكبار بالارتحال في اتجاه راس الفيل فورا، وأخذ ناقة تدعى"گوطاره" ذلولة، وان يوضع في جحفته وتشد إليها وهو فيها، ويقودها شخص يجعلها تمشي ذميلا حتى لا يؤلمه جرحه او ينزف اكثر.
وارتحلت المحلة في اثره. ولما وصلنا إلى رأس الفيل، امر بالنزول، واستدعي زاويين من مسومة حسني القراءة يقرآن القرآن عند رأسه، بعد ان اوصى ابناءه الكبار ولم أكن منهم أن يحفروا له قبرين أحدهما مشهر، والآخر مموه ولا يدفنوه إلاوليلا حتى لايعلم مكانه، فيقطع الفرنسيون رأسه او يمثلون به. وتوفي وهو في مانل وعيه كما اخبرت بذلك، واحسن الله خاتمته.
لم ياسف عليه اهل المحلة وإنما أطلقوا الرصاص في الهواء وقرع الطبل، وزغردت النساء لأن الأمير شهيد محقق الشهاد، وقد كانوذلك بعد ثلاثة ايام فقط من إصابته وليس كما زعم قاذد الجيش الفرنسي الذي هاجمه، ويدعى جان، وقد ادعا دعاوى كثيرة. كاذبة.. "انصيريني ارويخ يكذب، هوم ماياسر فيهم الكذب".
هذا ملخص شهادة عبد الرحمن ولد بكار كما اخذتها منه، ستعرضت منها ما يمكن التصريح به، ولم اهمل مايجب ان يذكر دون إثارة، او إغراض.
ولقد عاملني هذاوالرجل معاملة طيبة تنم عن أخلاق عالية إلى ان خرجت منومحلته معززا مكرما، رحمه الله ورحم أمثاله من الرجل الأقوياء. وقد اعود دائما إلىوبعض ما أتحفني به من نوادر في الوقت المناسب.
واخيرا أذكر ان بكار أوصى على الاجتهاد في حماية ميرة المحلة ودوابها لأن الدفاع عن منطقة افله سهل، ولذا اوصى بمواصلة المقاومة وتوزيع الاستحكامات على مداخلها الغربية في أفام لخذيرات.
طاب عيدكم.
د. محمد ولد أحظانا.