قراءة المجموعة القصصية ( ثورة غباء) للكاتبة الأستاذة نزيهة يدالى الحسن فرصة استمتاع باللغة والأدب والثقافة وصخب الحياة الاجتماعية المعقدة ومشاهدها التى لاتدوم على حال فالفرح ينقلب حزنا والفراق يغدو لقاء وهكذا
تتكون المجموعة من ثلاث قصص: قصيرتان ( ثورة غباء / الضحايا ) وقصة طويلة نسبيا ( أبواب مواربة )
قصص صاخبة بالأحداث والأشياء والمعلومات
وككل السرديات الموريتانية الحديثة بدت القصص نمطية من حيث المضمون تعالج واقع المجتمع الموريتاني وأهم ماشهده ( ويشهده) من تحولات جذرية اجتماعيا واقتصاديا و ( اخلاقيا)
ومن حيث الشكل فالكاتبة لم تخرج عن تقاليد الكتاب المحليين الذين لا تستوقفهم مساطر السرد وأشكاله فلربما كتب احدهم رواية فى ( جلد) قصة قصيرة أو قصة قصيرة فى ( جلد) خاطرة اومقال طويل فما يهم الكاتب عندنا هو توصيل رسالة بلغة جيدة ومعلومات دقيقة ودعك من الشكل السردي والفصول والأبواب والعقدة والحل ونحو ذلك
بذلت نزيهة جهدا رائعا فى تقديم مواضيع تؤرق المجتمع الموريتاني منذ سنوات مثل:
( شبيكو
لحجاب
القمار
الإنحراف الأخلاقي
استبدال الدراسة بالأعمال المشيوهة
النهم والاستعجال فى جمع المال بأية طريقة
الزواج خارج المساطر الدينية والعرفية
تنامي الجريمة المحلية والعابرة للحدود
الهجرة إلى الخارج
تغير الطباع والمسلكيات والأفكار
تقلص المسافة بين الرجل والمرأة فى عالم الجريمة )
ناقشت الكاتبة هذه القضايا عبر أبطال قصصها بأسلوب شيق ولغة قوية
ظهرت الكاتبة خلف سطور قصصها بطبيعتها الاجتماعية المحافظة وخلفيتها الأكاديمية كمتخصصة فى الاقتصاد الإسلامي
فالبطلة( امينه) مثلا كانت شخصيتها نتاجا لثقافة( إيكيدية) صارمة تقترب من المعنى تلميحا وتبتعد عنه تصريحا لتترك للمتلقى فرصة فهم مايناسب مستواه والفكرة التى تتلاءم مع رؤيته الخاصة
( امينه) سيدة مثقفة ( كيصها) نواكشوطي معاصر و( مكينتها) متمربطة محتشمة
هي عدة نساء فى امرأة وهي عدة حوارات فى حوار رئيسي وهي عدة شخصيات فى شخصية واحدة وهكذا
تمثل( امينه) روح الانفتاح إلى أبعد الحدود ولكنها أيضا تستخدم ( المكابح) الاجتماعية التقليدية المحافظة لتستقر فى خانة الانغلاق درجة انك تحس بصراع عاطفتها وعقلها وضميرها وانوثتها فى ( مونولوج) داخلي هو بالمحصلة حوار المرأة المثقفة مع المراة غير المتعلمة
وحوار الحب مع المصلحة
والمثاليات مع الماديات والأنوثة مع البيئة المحيطة
تجد لدى ( امينه) روح الهدوء والحكمة المشوبة بروح الاندفاع والتهور
وهي تحاول أن تبقى ( امينه) الأصلية حتى لاتضيع فى ( نسخ) جديدة غالبا غير ( مصدقة) اجتماعيا
تتارجح امينه بين ( ثورة غباء) تدفعها بقوة لأن تعيش كما تريد لا وفق مقاسات المجتمع فتغادر( القوقعة) فجأة لتخاطب حبيبا تريده أن يبقى إلى جانبها غير مقتنعة بالهزيمة امام حقيقة أن علاقتها معه كانت علاقة "نزوة" مراهقة عابرة بالنسبة لها وعلاقة " رغبة" عاطفية عابرة بالنسبة له تذوب فى مواجهة تحقيق( مآرب) جسدية هي كل شيء بالنسبة له
وبين ( غباء ثورة) تريد الخروج على تقاليد صارمة
تبقى المرأة فى أحسن الحالات حبيسة درب يمتد فقط من " البيت" إلى " القبر"
وسط ذلك التارجح تلوذ( امينه) بدخان ثقافة الروايات والافلام والمسلسلات الرومانسية لتعيش عوالم تفتقدها على الأرض ففى النهاية الحب الذى شغل دماغها وتفكيرها ليس شيئآ مذكورا فى الواقع والبوح للحبيب لم يغادر الزمن الجميل ( اعطيتها مسواكا فاعطتنى مسواكا) و( تبريعة) مبهمة لايعرف وجهها من قفاها هدفا ورموزا ورسالة
أطلت نزيهة بين سطور القصة الأولى ( ثورة غباء) بوجه اجتماعي تواق لمسايرة العصر مكبل بالتقاليد الاجتماعية يزداد غموضا عاطفيا فى حين يزداد وضوحا عقليا والعكس
يسلم ( خزامة) حياته لصراع غير متكافئ بين عاطفة تريد التعبير عن نفسها وعقل طموح للسيطرة فى النهاية
وعندما نتجاوز ( الضحايا ) نجد الخلفية الأكاديمية والعلمية لنزيهة تستقبلنا فى ( الأبواب المواربة) عندما تغوص بنا فى المالية الإسلامية وتقدم شروحا مقتضبة للمرابحات والقراضات والمعاملات المعاصرة مقدمة مقاربة تاصيلية لما وصلت إليه الأمور من تشبيك وسلف بزيادة وقمار ومضاربات ونحو ذلك
للمرأة حضور صاخب وطاغ فى المجموعة القصصية فالمراة حاضرة بقوة بين فواصل العمل ومفاصله بطلة تقود وتدير احداثا صاخبة متلاحقة
شحنت نزيهة قصصها بثقافة تقليدية واسعة وهي تتناول تحولات المجتمع والصدمات التى واجهها
وهي صدمات كانت بطلات وابطال القصص نتاجا لها
ومؤشرا على عمقها وجذريتها أحيانا (ليلى مريم ) مثلا فى قصة ( أبواب مواربة)
فالمراة تسافر وتقامر وتبيع كل شيء وتتخذ اي موقف فى سبيل المال
ولاخطوط حمراء فالمثقف جزء من لعبة المادة والدين مطية للثراء والاخلاق تبدلت تمامآ
والنخبة يقودها المجتمع وليس العكس والدولة خجولة امام سيطرة القبيلة
لم تكن الحياة الإجتماعية فى البلاد قبل عقود من الآن تسمح حتى بالتفكير فى عمل المرأة ودراستها وسفرها ودخولها عالم الجريمة ولكن بعد طفرة الغزو الإعلامي الحضاري عبر الفضائيات والفضاءات المفتوحة واقعا وافتراضا أصبح كل شيء مطروقا معقولا ومألوفا
حتى الطب والفقه والقانون تم تجاوزها فقط لإشباع الغرائز المادية والجسدية
مجموعة رسائل وفقت نزيهة فى تضمينها مجموعتها القصصية
ولعل قضية ( امخسور) أن تكون هي ( احنش منت اصطيلى) فى قصة( الضحايا) حيث أدى الحمل الغريب والمفاجئ لبطلة القصة ( إيدوم ارجالها ) إلى تدمير أسرة وربما مجموعة كاملة برجالها ونسائها فكانوا بين هارب ومختف و" مجلوط" ومنعزل
وتعالج القصة هروب المجتمع من الفضيحة ومحاولة التستر عليها وتغييب ادلتها بأية طريقة متاحة
ف ( امخسور) أو ( البارك) مشجب يعلق عليه المجتمع فضائح بناته فإذا حملت إحداهن سفاحا خارج الأطر الشرعية لابد من البحث لها عن مخرج ولو بالحديث عن جنين قد ( يختبأ) فى بطن أمه أو ( حوماته) لأكثر من عدة سنوات ولإثباته يتم تجاوز الطب والعقل والمنطق واستصدار ( تأصيل ) شرعي على طريقة ( هو الا عذر اكبلوه والل خلوه )
نجحت نزيهة فى رسم لوحة ناطقة لأزمة ( البارك) وتداعياتها وتكلفتها الباهظة اجتماعيا إذ طالما فككت الأسر واربكت أهل الحل والربط دينيا واجتماعيا وقانونيا وخلفت مرضى ومفقودين ومواجع لانهاية لها
تبدو نزيهة كاتبة متمكنة عارفة بمجتمعها ومشاكله قادرة على التأصيل والتفصيل فى تلك المشاكل حتى ليخيل إليك انها تعرف أبطال وبطلات قصصها أو تعرف من يعرفهم فلا تكلف فى القصص ولا استخدام لخيال علمي أو حيل سينمائية فالوجوه أليفة كأنك تراها فى الشارع والأحداث كأنها وقعت أمامك
ونزيهة لا تاخذك لتاريخ بعيد فقصصها لحظية نشطة فضاءاتها الزمنية محينة غالبا فابعد مدى لها هوبداية السبعينيات ولكن بصمات( فيس بوك) و( شبيكو) و( أزمة العقارات) التى ألقت بآلاف الأسر إلى الشارع بجرة احتيال تجعلك تعيش مع أبطال القصص واقع أيامنا هذه بدون رتوش
لم تتعب نزيهة نفسها ولم تتعبنا بتتبع الأبطال والبطلات من ناحية محل الميلاد والأوصاف الشخصية وتفاصيل الحياة اليومية فى المنازل والشوارع والاحياء السكنية
ربما نزيهة كغيرها من الكتاب المحليين تميل ل( قصر النفس) الكتابي حيث تهتم من بطل اوبطلة قصتها بدوره وسياقاته فقط دون الغوص فى نشاته وتحليل نفسيته والبيئة المحيطة به
ومن عادة كتاب القصص والروايات عالميا مرافقة البطل من( قطع سرته) إلى مواراته الثرى( إن مات فى ختام القصة أو الرواية) فيقف القارئ على أدق تفاصيل حياته من لون عينيه ولسانه وشفتيه إلى طريقته فى النوم مرورا بوصف كل مكان زاره ومراحل دراسته إن كان متعلما وعلاقاته الشخصية وأسرته واصدقائه
نقول دائما لكى لانظلم الكتاب الموريتانيين إنهم نمطيون مضمونا غير مرتبطين غالبا بالشكل السردي إذ يهمهم فقط وصول الرسالة وطريقة توصيلها سواء كانت فى ظرف أو على جناح حمام زاجل ونزيهة ليست بدعا منهم ولذلك أيضا لم تقترح حلولا وصفت الداء عبر قصص سريرية اجتماعية توثق مكمنه دون الخوض فى المسببات أو اقتراح علاج ولو ب ( المسكنات)
قدمت نزيهة مجموعة قصص مكتنزة ببهارات ثقافية تاريخية فقهية موسوعية وابانت عن إبداع حقيقي فى أسلوب الكتابة بلغة لا ( تنترك) إلى المعجم للبحث عن معانيها ولا( تطيحك) فى قيعان اللغة السوقية المبتذلة
( من صفحة حبيب الله أحمد على fb)