يقول جيلورد نيلسون :
(عضو مجلس الشيوخ الأميركي السابق الحائز على وسام الحرية)
" إن الاختبار الحقيقي لضمير المرء يكون في مدى استعداده للتضحية اليوم بشيء ما للأجيال القادمة التي لن نسمع منها كلمة شكر أو امتنان لما قمنا به.. "
نسمع كثيرا عن البرامج و التخطيط المُستَقبَلي الذي يُنظِّر للمُستقبل، بنظرياته و تجاربه، فيقدم تصورات للأحداث و الظروف و المناخ، و يُقيِّم الأضرار و النتائج.
لكن قلة هم أولئك الذين يعرفون الفاعلين الحقيقيين، أو الذين يُسمّون جنودَ الخفاءَ ، فالألقاب و التكريمات تكون من نصيب السياسيين و رجال الأعمال و الإعلام الذين لم يقدموا شيئا مذكورا، و قد تكون البرامج سبقتهم بعقود.
من أسباب فشل البرامج الكبيرة ذات النفع العام المستقبلي حرصُ أصحابها على الحصول على الثمار قبل قطافها، و استعجال النتائج ليستفيدوا منها سياسيا أو اقتصاديا أو إعلاميا ، أو كل ما سبق مُجتمِعا ، و يكون ذلك شبيها باجتثاث النبتة قبل أن تصل إلى درجة النضج بمراحل كثيرة.
فلماذا يستعجل الناس النتائج؟
و لماذا يحرص الناس على الظهور؟
و لماذا يتم استثمار البرامج الإنسانية؟
أليس ذلك نوعا من أخذ الثمن ؟
ألا يتنافى هذا مع الصدق و الهدف؟
و هل هناك من يفعل ذلك بسبب مبادئه و قناعاته الذاتية؟
الضمير هو كلمة صغيرة قليلة الحروف تنطلق بصوت قوي ثم تسير في طريق التلاشي إلى صوت يُشبه الصفير ليتناغم مع أصوات النباتات فيضيع هناك، دون أن يُحس بوجوده أحد، و بالتالي لا يُمكن إنقاذه.
الضمير هو ذلك الوازع الحيُّ الذي يسُنُّ قوانين ذاتية صادقة مع النفس، قوانين تجعل الهدف مقدَّسا لتذوب الحياة نفسها داخله، حتى لا يتِم فصلهما لأيِّ غاية أو إغراء و تحت أي نوع من التهديد و الوعيد.
الضمير عند الفلاح هو الحرص على فصل المنتوج الجيد و عزله و حمايته و عرضَهُ للعامَّة و كأنه سيكون غذاءه الأبدي و طعام أبنائه.
الضمير عند الطبيب هو بذل أقصى طاقة و جهد و كأن هذه اللحظة هي التي سيتحدد فيها مستقبله و نجاحه.
الضمير عند الجندي هو الحفاظ على الأمن لا خلق التوترات، و هو شرف اللباس و العلم و عزة الوطن.
كثيرون يفعلون الفعل و هم يفكرون في حفلات التكريم و يرون ابتسامات الفخر في عيون أطفالهم و ذويهم، إنهم ينتظرون ذلك التصفيق الحار و بدونه يكون المجتمع في عيونهم ناكرا للجميل، غير عابئ بالمواهب و القدرات.
لكن كيف ننظر إلى الأطباء الذين يقتحمون مخيمات الأوبئة الفتاكة و التي لم تُحدَّد بعد و لا تُعرف طُرقُ علاجها و لا حتى أسباب الإصابة.
كيف ننظر إلى رجال الإطفاء و هم يقتحمون النارَ و الهدم و المخاطر و لا ينظرون خلفهم إلى أي شيء.
كيف ننظر إلى الجنود على حدود بلدانهم و هم بعيدون عن الأهل و الأحبة و عن الحياة بملمسها الناعم.
كيف ننظر إلى العلماء وهم يقومون بالتجارب المجهولة و يُنازلون المخاطر لتحسين صحة الإنسان و ظروف عيشه و حمايته من الأمراض و الأوبئة و المزالق ...
قد يقول الناس إنهم ينتظرون الشهرةَ و التكريم و الأوسمةَ، و التبجيل و أصابع الإشارة في المجالس و الطرقات و على الشاشات الكبيرة و الصغيرة، و على صفحات المواقع و أغلفة المجلات .
من المعلوم أن قلة دفعوا حياتهم و شبابهم للوصول إلى تجارب معينة و لمحاولة إنقاذ آخرين، و لا يَعرِفُ المُشككون هل كانوا يريدون بذلك التفخيمَ و التعظيمَ ، فلم يكونوا معهم عند ذلك الخَيْطِ الخَطِرِ خيط الهزيمة و النصر في تلك اللحظة الحاسمة من عُمُر الإنسان.
امتحان الضمير عبارة تعني حياته أو موته، تعني الإيمان به أو التظاهر الذي يُسمّى نفاقا ، و ما أكثر ألوانه و صوَّرَه و تبريراته.
امتحان الضمير هو القيام بالأمر النافع الذي تكون له عواقب و مخاطر دون انتظار الشكر، و لا رؤية تحققه و لا مُجرد النظر إلى فائدته الكبرى على المجتمعات لأنها قد تتحقق بعد قرون و قرون، و ربما أبعد من ذلك بمسافات زمنية ضوئية.
فهل هناك من يملك القدرة على تقديم عمل بطولي، يُعدُّ تضحيةً حقيقيةً ، للأجيال القادمة كشهادة على تَمَسُّكِهِ بمبادئه ؟
ذلك امتحان حقيقي يُقْصِي الأطماعَ و الأغراضَ الخفية الكامنة في أعماق النفس البشرية بسبب حُبِّ البقاء، أو شَرَه الظّهور و التمكُّن، أو بسبب الكسل و الركون إلى الخوف و الخنوع و هو وحده طريق العبور الآمن إلى المستقبل، و الرسالة الرائعة إلى تلك الأجيال القادمة الصغيرة أن بشَرا رائعين كانوا يَحْيَوْنَ فوق هذه الأرض في يوم من الأيام، و أنهم فكروا في إنصاف من سيأتي بعدهم لعلَّهُ يفعل نفسَ الفعل للأجيال اللاحقة،
و الأسئلة المطروحة و المُلِحَّة هي :
مَن سيَكْتُبُ تِلْكَ الرّسائل ؟
و بأي لغة و حروف ؟
و في أيِّ مجال ستتركز ؟
هكذا يجب أن تتسابقَ الثقافات و الشعوب، و هذا يُقبِّلُ التاريخُ صفحاتِ الراحلين ، و يُعَطِّرُها بإكْسيِرِ الخُلود !.