أدي آدب
الإيقاعُ- في نظري - ليْسَ مُجَرَّدَ صِفَةٍ، أو مُكَوِّن أسَاسِي من مُكوِّنات الشِّعْر، بل هو أحَدُ نواميس الكوْن الساريةِ في نظام الوُجُود، وسيْرورَة الحَياة.
فنبَضاتُ القلب، وعمليةُ التَّنَفُّسِ شَهيقاً وزفيراً، وخَطَوَاتُ الأقدام،ـ وحرَكةُ البحْر مدًّا وجَزْرًا، وتعاقُبُ الفُصول... وجَدليةُ الليل والنهار... ودَورانُ الكواكب حوْلَ ذاتها، أوْ حَوْلَ بَعْضِهَا، كلُّها إيقاعاتٌ كونيةٌ، باخْتِلالها تَخْتَلُّ الحياةُ والوُجودُ.
وما دام الشعْرُ تَجَلِّيا من تَجَلِّيَاتِ الكوْن والحياة، فلا مَناصَ من أنْ يتشبَّعَ بإيقاعاتهما المُتجَذِّرَةِ في صَمِيمهما، إلا أنَّ إيقاعاتِه لا يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ نظْمًا، بل يجبُ أنْ تكونَ إيقاعات مُتَجَدِّدَةً بِتَجَدُّدِ التَّجْربَة، ومُتَنَوِّعَةً بتَنَوُّعِها.
ومنْ هُنا تأكدَ عندي- عبْر دِراسَاتي حوْلَ هذا المَوْضُوع- أنَّ هناكً إيقاعَ البَحْر العَروضي،وهو إيقاعٌ نَمَطِي، ميكانكي، جامد، بيْنما إيقاعُ الرُّوح الشاعِرة، هو الإيقاعُ المُتغَيِّرُ المُتَجَدِّدُ، وِفْقَ تَبَدُّلاَتِ طَقْسِ الحَالَةِ النَّفْسِية للشاعِر، حيث يَنْضَبِظُ علَى ذَبْذَبَاتِ تفَاعُلاتِه الدَّاخِلية، أكْثَر من انْضِباطِه على تَفاعِيلِ العَرُوضِ، ويَبْقَى الانْفِعَالُ هو الجِذْرُ الدَّلاَلِي الأصْلِي المُشْتَرَكِ بيْنَ التَّفْعِيلاتِ، والتَّفَاعُلاتِ،ممَّا جَعَلَنِي -خِلالَ تدْريسِي للعَرُوضِ- أرْبطُ لِطُلاَّبِي بيْنَ تقْطيعِ البَحْر علَى السبُّورَة، وبيْن تَخْطِيطِ القَلْب، حيث ترْتَفِعُ وتهْبِطُ مُؤَشِّراتُ النَّبْضِ هنا وهُناك، وفْقًا للْحَالَةِ النَّفْسِيةِ الغالِبَةِ، وهَكذا تَتَمَايَزُ التَّجَاربُ الشِّعْرِيةُ، وتَخْتَلِفُ قَصِيدةٌ منَ الكَامِلِ مَثَلاً، عن أخْرَى علَى البَحْر نَفْسِه، بقدْر الوَفَاءِ لِخُصُوصِية هذا الإيقاعِ الرُّوحِي، ولوْلا ذلكَ لَكَانَ إيقاعُ كُلِّ بَحْرٍ مُتَطَابِقًا تَمَامَ التَّطابُقِ بيْنَ كُلِّ قصائده.
إنَّ التَّفاعُلَ بيْنَ ايقاعِ الرُّوحِ المُتَمَوِّجِ، وإيقاعِ البَحْرِ العَرُوضِي النَّمَوْذَجِي المعْيَاري، شَبِيهٌ إلى حَدًّ كَبِيرٍ بالتَّفَاعُلِ بيْنَ تِيَّارِ المَاءِ، ومَجْراهُ منْ قنَوَاتِه، فكُلَّمَا اتَّسَعَ المَجْرَى، انْدَاحَ الماءُ ، أو الشُّحْنَةُ الشُّعُورية، رَهْوًا، بِكُلِّ سَلاسَةٍ، وعندما تَضِيقُ قَنَاةُ المَاءِ، أو البَحْر العَروضي، عن تَيَّارِ المَاءِ أو العَاطِفَة، يبدأ الاحْتِكاكُ بيْنَ الإطارِ، والمُحْتَوَى، وهذا ما يَنْجُمُ عنْهُ تكَسُّراتٌ، وانْهِيَاراتٌ يُحْدِثُها التِّيَارُ المَائِي في حَافَاتِ قَنَاتِه،حيث يكُونُ انْدِفاعُه-كُلَّمَا ضَاقَتْ عليْه- أقْوَى، وصَوْتُه أعْلَى،وذلكَ نفْسُه هو ما يَحْدُثُ بيْنَ الشِّعْر، والبَحْر،وهو ما يُفَسِّرُ- في نَظَرِي- تَغَيُّراتُ "الزِّحَافَاتِ العِلَلِ"، الطارئة على النَّمَوْذَج المِعْيارِي للْعَرُوض، ورُبَّمَا كانتْ هذه العَلاقةُ الحَمِيمَةُ بيْنَ طبِيعَتَيْ تَياريْ المَاءِ والشُّعُور- أيْضًا- تُمَثِّلُ خَلْفِيةً وَطِيدَةً لِتَسْمِيةِ الإطارِ العَرُوضِي بالبَحْر،إذْ لِكُلِّ مِنْهُمَا مَدٌّ وجَزْرٌ.
وجدلُ هذا الاتِّساع والتضْييق، وما يَتَرَتَّبُ عَلى كُلٍّ مِنْهُما من إيقاعٍ يُناسِبُه، يعْني –في نظري- أن الحُريةَ المطلقةَ تتنافى مع الفن، فالحُرية الفنية هي الحرية في ابتكار قواعد جديدة أو متجددة للإبداع الفني، وليست التحرر المطلق من القواعد والضوابط، فذلك يتماهى مع الفوضى العبثية، ودلِيلي على ذلك أسْتَقِيهِ من سِفْر الحياة البديع، فالرياحُ النافِخةُ في الفَضاء الفسيح، العاويةُ في الفِجاج الفيْحاء، لا تُنْتِجُ إيقاعًا فنِّيًا مُتناغمًا، ولكنها عندما تُحْشَرُ فِي أنْبُوبٍ أو قَصَبَةٍ، ولا تُتْرَكُ لها سوى فتحاتٍ ضيقةٍ، تَسُدُّها وتفتحها أناملُ نافخِ النَّايِ بيْن الفيْنَة والأخْرَى، هُنالكَ تُولدُ قطْعةٌ موسيقية بديعةٌ، تَتَخَلَّقُ من جَدَلِية تَعَاقُبِ الحُرِّية والتقْييد، ممَّا يَعْنِي أنِّ التقييداتِ والضوابطَ قد تُسْهِمُ في الإبداع أكثر من الحرية المطلقة العمياء.
ولديَّ دليلٌ آخَرُ على ذلك، أسْتَقِيهِ من سِفْرِ الحياة نفسه، يتجلَّى في أنَّ إيقاعَ خطَواتِ الماشي الحر الطليق أقلُّ فنيةً من إيقاع خَطَوات الراقصِ، المُقيَّدة بضوابط إيقاعٍ خارجي وداخلي.
زدْ علَى ذلك أنَّ اللُّغَةَ التي يُكْتَبُ بها هذا الشِّعْرُ، تَسْتَبْطِنُ - فِي بنْيَتَيْها: السَّطْحِية والعَمِيقَة -إيقاعاتِها الداخليةَ والخارجيةَ، التي أفَضِّلُ أنْ يُعَبَّرَ عنْها، بالإيقاعاتِ الصَّوْتِية والمَعْنَوية،حيثُ لا يَنْفَكُّ نِظَامُها عن جَدَلِه الدَّلَالِي، بيْنَ "صوْتِ المَعْنَى" و"مَعْنَى الصَّوْتِ"،حسَبَ مَا يخْلصُ إليْهِ الناقدُ الفَرَنْسِي:"هِنْرِي مُوشِنِيه".