فينسنت فيليم فان غوخ :
هو رسامٌ هولندي مصنف كأحد فناني الانطباعية، تتضمن رسومه أكثر القطع شهرة وشعبية وأغلاها سعراً في العالم ، عانى من نوبات
بسبب مرض عقلي ،و في إحدى هذه النوبات المتكررة قَطَع طرفَ أذنه اليُمنى .
من أقواله المشهورة؛
" اذا سمعت صوتا بداخلك يقول (إنك لا تستطيع الرسم) فهذا يعني ارسم سيصمت ذلك الصوت بداخلك للأبد"
كثيرون في عالمنا القديم و الحديث هم أولئك الذين أوقفت مشاريعهم الفكرية أو الفنية أو السياسية ... صعوباتٌ مُعيَّنة، و جعلتهم يتراجعون أو يَفشلون أو يتوقفون، و قبلها كان الحماس يتلقَّف أعمالهم ، و كانت الثقة بالنفس تدفعهم دفعا إلى المجهول، و كانوا ينتظرون انبلاج الصبح كما ينتظر الصغار صباح العيد ببهجة و سرور، و كأن الحياة زهورٌ و سهول، و أفراح و حفلات دائمة.
فما الذي سبَّبَ هذا العُطْلَ المُفاجِئَ ، الذي قضى على الطموحِ و النجاح و اجتثَّ جزءا كبيرا من الماضي و العمل المتواصل المُتقَن؟
و هل أسبابه تعود إلى الفرد صاحب المشروع باعتباره صاحب الفكرة و القرار أولا و أخيرا؟
و هل للمجتمع و المحيط و الدولة و السياق الإعلامي و السياسي و المعرفي السائد دورٌ في تثبيط الهمم و بذر الفشل في كوامن الأفراد بما يجعلهم غير قادرين على تمييز الصواب من غيره و يَسلبُهم شرف المحاولة، الذي يمنح خبرة على أقل تقدير حسب رأي الفلسفة؟
من المعروف أن العمل بنفس الطرُقِ السابقة و المتداولة يؤدي إلى نفس النتائج و لو بتشويه قليل، و أن السبح حسب النظام المعرفي المُستهلَك لا يعطي تميُّزَا ،و لا يمنح صاحبه انتصارا ذاتيا يستطيع به أن ينال قَصب السبق على مستوى المحيط و الدولة و العالم الكبير و الواسع.
و لذلك فالذين نالوا شرف الابتكار و التّطوير كانوا من بين القلة التي آمنت بقدراتها الذاتية ، و قررت مواصلة مشوارها بعيدا عن التصفيق و التطبيل، و عن التثبيط و السخرية، فكلهما طرف مِقص حاد ، يُمْكنه بتْرُ الأفعال و الأقوال و الأفكار.
فان غوخ أحد أبرز الرسامين العالميين ، الذين كتبوا بالفرشاة، في وقت كان القلم يتجاهل دورها ، و يُحجِّمه و يُقلل من أهميته،فالصراعِ بين هذه الأدوات المعرفية، يُشبه الصِّراع بين أصحابها ، في الشكل و المضمون و الهدف، من باب و يُحبُّ ناقتها بعيري، كما يقول الشاعر العذري العاشق كثيِّر المعروف باسمه المُضاف إلى محبوبته الأبديَّةِ عَزة،فالأقلام و الأصوات و المزامير و الفرشاة.. في منافسة دائمة و كأن الأدوات تملِكُ أرواحا هي الأخرى ، لم تَسلَم من الحسدِ و حُمَّى التنافس، أو عبادة المركز ،و الحفاظ على المكانة،
كما يحدث في أغلب الأروقة الفكرية و السياسية و الاجتماعية.
تدور مقولة الرسام فان غوخ حول ذلك التشكيك الداخلي ، الذي يلبس أثواب الفتورَ و التراخي غالبا، و يرافق الكسلَ و الخمول، إنه الصوت المُشكك و المثبِّط، الذي يُصِرُّ في كل وقت على هدفه ، و يُردِّدُ قائلا:
لن تحصل على نتيجة من هذا الكم الكبير من الهراء، و يكمن النجاح في القدرة على تجاوز هذا العائق الأول فبدون الانتصار عليه لن يكون هناك عمل و لا فكر و لا نجاح، و بتجاوزه تكون المعوِّقاتُ الأخرى أكثر سهولة، فهي مُعوقات صامتة، لا تملك جرسَ الوسوسة، و لا أساليب التَّحجيم و التَّشكيك المتكررة.
و يقول العارفون بأسرار النجاح، أولئكَ الذين ذاقوا بأنفسهم طعمَ نهاية المِشوارِ، و رأوا بأعيُنِهم شُعاعَ الضوءَ السّاطِعَ الذي يُلبِسهم أثوابَ القَبولِ ، و يَفتحُ أمامهم أبوابَ الحياةِ و المراكزِ، و يُغطِّيهم بهالةِ القداسة و غيمةِ الابداع ، و يمنحهم وِسام التَّميُّز الأبديِّ الخالد ،و كأنهم بتميُّزِهم هذا وُلِدوا في عالَمٍ غيرِ عالَمهم السابق، و لأهل غير أهلهم ، و في مكانٍ مَحمود و مُختلفٍ حيثُ يولدُ العَباقرةُ الأفذاذ ،هؤلاء المُبدعون بعد الوُصول ، قال بعضهم :
إن رُفقاءَهم الذين فشِلوا في تحقيق مشاريعهم الشخصية و الجماعية، التي عملوا من أجلها زمنا طويلا ،كانوا على بُعد خطوة واحدة، أو خطواتٍ قليلة من النجاح، لكن الحاجز الأخير، الحاجز القُطْني أو الوهمي و سوء الحظِّ و التقدير و الحساب، و ضعف الثقة ، و الشك في القدرات، و الوهم و التردد ...و كل تلك العائلة الكبيرة، عائلة الفشل و الرجوع و التثبيط ، استطاعت صدَّهم في اللحظات الأخيرة الحاسمة، فمنعتهم بذلك من تجاوز الخطِّ الأخير، أهم خطوط حياتهم المِهنية و العادية على الإطلاق.
يقول الرسام الهولندي فان غوخ: ارسم، بمعنى اكتب، ابدأ، دوِّن...
لا تتردد أبدا فالتّسويف و التأجيل و انتظار الأدوات و الظروف المواتية كلها عوامل تجعلك تقف في نفس المكانِ مُنتظرا أن تصل مكانا آخر يبعد آلاف الكلمترات دون أن تُحرك ساكنا، إنك بهذا الفعل الغريب تُضيِّع أهم وسائل النجاح و أكثرها قيمة، إنه الوقت و القدرة البدنية و الفراغ المُمل، و أنتَ بالتسويف الدائم لا تُخزِّنهم عندك بل يتسرَّبون من بين يديكَ كما يتسرَّبُ الصباحُ و المساءُ، و لا تملِك عندها إلا النَّدم، لكنه هو الآخر يأخذ نصيبه من الوقت و الجُهد و الطاقة، و الخاسر الأبدي هو الابداع و التّفوُّقُ ، هو البشريَّةُ بضميرها الجَمعيِّ المُشتركِ، هو الإنسانية بتلاحُمها و تَكامُلها النَّافع.
و السؤال المُخيف الذي يُمكننا طرحهُ على الذين حاولو و فشِلوا بسبب صَوت النَّهيِ الخافتِ داخلهم
بعد نقاش فِعل الأمر الحَيِّ (ارسم) - الذي خلَّدهُ صاحب الفرشاة الذهبية، ذلك الرجل الهولندي المُتميِّز- هو:
ماذا لو كان أحَدُ أسرار الحياة الهامة و الأساسية مُرتبِطا بفرد منهم أو جماعة، وكان أو كانوا على بُعدِ خطوة واحدة من معرفته، لكنهم استَمعوا لِصوتِ وسوسةٍ داخلية جعلتهم يتراجعون بسهولة و قد لا تُتاح تلكَ الفُرصة مرةً أخرى، ماذا سيقول أو سَيَقُولون للإنسانية ،للمجتَمع ، للعالَم، و للأجيال المُستقبيلة بشكل خاص ؟