من جديد، ومرة أخرى

سبت, 07/12/2025 - 00:32

عبد الباقي ولد محمد

 

 

لا يزال شاعرُنا المتألّق، الأستاذ أحمد ولد الوالد، يواصل تألقه في سماء الإبداع الشعري، مثبتًا حضوره اللافت وتميزه المتصاعد.

فمساء أمس الخميس، 10 يوليو، وفي الفضاء الشعري لهيئة “بيت الشعر”، وأمام نخبة مرموقة من رموز الأدب والفكر والثقافة، ألقى ملحمة شعرية مديحية جديدة، تنضح بالإبداع، ثراءً في الكم، وجودةً في الكيف، وتأثيرًا في النفوس.

سبق لي أن سعدتُ بحضور أمسية شعرية مديحية للشاعر نفسه، احتضنها اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين، ضمن برنامجه الأسبوعي "شاي الأربعاء" وعبّرت حينها في تدوينة سابقة عن إعجابي العميق وانبهاري بما قدمه الشاعر من قصائد متميزة، بلغت العشرات، اختلفت كل واحدة منها عن الأخرى في البحر والصور والأسلوب، رغم وحدة الموضوع والغرض، وهو ما حال وقتها دون تسلل الملل إلى نفوس الحاضرين، الشيء الذي هو معتاد في مثل تلك الحالة والوضعية، بينما كانت تلك الأمسية مختلفة تماما حيث استطاع الشاعر بقدرته الإبداعية وتفتق موهبته الشعرية أن يجعل من كل قصيدة تجربة فنية مختلفة وفريدة.

وبالتأكيد فإن ملحمته الشعرية -يوم أمس- ليست إلا تجسيدًا لتلك الرؤية، وامتدادًا لهذه العبقرية، حيث أنها جاءت فيضا ربانيا ودفقا إبداعيا رهيبا، إجتاحت أحاسيس الجمهور وحركت مشاعره إعجابا وطربا واندهاشا من هذا الفيضان الإبداعي الخارق للعادة والمختلف والمنقطع النظير،

قصيدة بمئات الأبيات الشعرية، بقيت تتصاعد فنيًا، من أول بيت منها إلى آخر كلمة، تأخذ المتلقي في رحلة إلهام شعري متصاعد في سلم إيقاعي موسيقي مبهر، وفضاء سماوي رحب وآسر، طريق يستمد معالمه وتضاريسه من لغة جزلة وقريبة، وأسلوب رصين وثابت وصور ومشاهد ماتعة وجذابة.

ومع أن الشاعر لم يهمل في رحلته المديحية هذه، المرور بمحطات فاصلة في طريق القافلة الزمانية والقافية المديحية المتخذة من الشعراء عبر العصور الإسلامية مسارا لها من عهد حسان بن ثابت وكعب بن زهير، مرورا بمحطات فارقة كالبرعي والبوصيري وأحمد شوقي، إلى آخر المتأخرين من الشعراء الموريتانيين، متزودا من وقود "بانت سعادُ والهمزية والبردة ونهج البردة وزارت عليو وغيرها من عيون المديح النبوي الشريف، الغاية في الجمال والروعة، مما أعطى الملحمة قوة في الدفع وسلاسة في الانسياب.

وليس ذلك فقط بل إن الشاعر في ملحمته هذه كان قد نحى منحى جديدا ومختلفاً، من خلال تمكنه الفائق من استنطاق وتوليد تداعيات فكرية وفلسفية عاصفة وعميقة، ستنضاف بلغتها وأفكارها ومنعرجاتها وسياقاتها إلى قاموس المديح النبوي الشريف، والذي كان -بحسب آراء النقاد والدارسين- قد استكمل محتواه واستنفد مجالات الإبداع والإثراء منذ فترة من الزمن، وظل محصورا بعد ذلك، في عمليات التكرار والإعادة والاجترار.

إستطاع الشاعر بقدرته الإبداعية التخيلية، التي تستمد طاقتها من الفلسفة والمنطق والرياضيات أن ينسج على منوال الخوارزميات أنساقا تربط بين الأدب والعلوم الرياضية، تتوالد من تلقاء نفسها في عملية فيضية لا متناهية، تكسر الرتابة في كل مقطع عن سابقه، مما جعل القاعة تتفاعل تعبيرا عن حجم الإعجاب والطرب لمستوى التناسق والجدة في المحتوى أثناء كل مقطع عن سابقه.

لقد نجح الشاعر، بقدرته الخلّاقة، في تجديد الإيقاع والمضمون من مقطع إلى آخر، فحيث أضفى ذلك على كل مشهد شعري نكهته الخاصة، كما كان لكل لوحة إبداعية صورها المختلفة، مما أثار في جمهور القاعة إحساسه المنقطع بالإعجاب والانبهار، تجاوبًا مع هذا الحجم من الغزارة في الإنتاج والتنوع في العطاء.

وللأسف، لم يسعفني الوقت لمتابعة تعليقات جميع المتدخلين، نظرًا لارتباط سابق، غير أن شهادات الأدبية خدي بنت شيخن، رئيسة اتحاد الأدب الشعبي، والدكتور عبد الله السيد، مدير هيئة بيت الشعر في نواكشوط، والوزيرة السابقة الأستاذة مريم بنت أحمد عيشه، كانت كافية لتؤكد، من زوايا متعددة، مكانة الشاعر أحمد ولد الوالد، الإبداعية والمعرفية المتميزة.

إنني أرى في هذا الشاعر امتدادًا حقيقيًا ومسؤولًا للنسق الإبداعي لشاعرنا الرمز الأستاذ والعميد أحمدو ولد عبد القادر، حفظه الله ومتعه بالصحة وطول العمر. الذي يتقاطع معه في القدرة الفائقة على تقديم الخلطة الإبداعية غير المتوقعة رغم قرب المأخذ واستحضار الحكمة في الإبداع الشعري والتمكن من ناصية اللغة والقدرة على التخيل واستنطاق وتوليد الأفكار والمواقف.

حفظ الله شاعرينا الفخر أحمدو ولد عبدالقادر وتلميذه في الإبداع الشاعر والعمدة والمستشار أحمد ولد الوالد،

ولعلّ هذا الامتداد بين الشاعرين من أبهى وأجمل ما تمخضت عنه الساحة الشعرية الموريتانية في العقود الأخيرة.