١٩ يونيو، الساعة ٣:٥١ م
·
الحلقتان الأخيرتان من ترجمة والدتنا الولية الصالحة العالمة عائشة بنت المختار بن حامدن
(الحلقة الرابعة)
ثم كان ثاني مؤلف لها في أوائل الثمانينات "نقلة في التجويد على رواية الإمام ورش"، فقد كانت ترى وجوب تعلمه، وكان شغلها الشاغل أن تقيم للنساء ألسنتهن بالقرآن وتعلمهن التجويد حيثما حلت، وقد تخرجت على يديها وعلى يدي بناتها لاسيما بنتها الأستاذة معها في المحظرة أختنا مريم بنت محنض بفضل الله تعالى حتى وفاتها مئات الحافظات، وكان آخر حفل أقامته رحمها الله تعالى لتخريج الحافظات من محظرتها في رمضان الأخير تخرج خلاله نحو عشرين حافظة لكتاب الله تعالى، منهن مجودات بروايتي ورش وقالون معًا... أما الموضوع الذي أخذ النصيب الأكبر من حياتها فكان السيرة النبوية وشمائل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
وكانت محظرتها التي أنشأت قبل قرابة أربعين سنة (1983) ومناهج تدريسها فيها موضوع محاضرة ألقتها في مؤتمر علمي بباريس قبل فترة المستشرقة الألمانية ابريتا افرد عن "العالمات المعلمات : عائشة بنت حامدن نموذجا".. كما كانت موضوع مقال بالإنجليزية لهذه المستشرقة أمدني بنسخة منه أخونا الباحث الدكتور ددود ولد عبد الله.
وكانت فضلا عن المحظرة مشرفة على المسجد الذي قامت على بنائه منذ نحو ثلاثين سنة بتفرغ زينه وظلت تشرف عليه حتى وفاتها..
أما فضلها وحسن خلقها، وصبرها على الأذى والمكاره، وصلتها للأرحام، وإحسانها وسخاؤها فحدث عنه ولا حرج.. كل يوم من أيامها يوم عبادة وتلاوة وتأليف وصلة وتدريس ومحبة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو شغلها الدائم ليلا ونهارا، ورتبت لنصرته حفلين أسبوعيًا تقيمهما لمدحه والحديث عن سيرته وشمائله بمحظرتها كل ليلة اثنين وليلة جمعة، فضلا عن مواسم المولد وغيرها.. وكانت كثيرة الرؤيا بالنبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وقد رأته مرة مستيقظة فأخبرت به زوجها الشيخ بن محنض رحمه الله وقالت إنها منذ ذلك الحين لم تستقر جوانحها من محبة النبي صلى الله عليه و سلم، وأما الصالحون فقد رآها في مراء مع النبي صلى الله عليه وسلم خلق كثير جدا، فلا يكاد يخلو أسبوع أو شهر لم يذكر فيه أحد الصالحين أنه رآها مع النبي صلى الله عليه وسلم..
وكان لها ولع عظيم لاسيما في أول حياتها العرفانية بالذكر والوعظ ومجالس الصالحين والأخيار، فذلك ما أشار إليه والدها التاه (المختار بن حامدن) سنة 1985 بقوله في قصيدة لها يودعنا فيها بعد فترة قضيناها معه بالمدينة المنورة:
((إذ كنت أسمع من تسجيل عائشة
وعظا يخيل أن الساعة اقتربت
وكنت أسمع منها كل آونة
ذكرا عليه بحمد الله قد دأبت))
وقال فيها وفي بيت آل أحمد بن عبد العزيز التاشدبيتي نزيل المدينة المنورة لما رأى من تآلفها معهم:
((لعائشة ميل إلى أسُد الهدى
وتختار أهل الفضل منهم لها أهلا
فكانت من البيت العزيزي بضعة
وكانوا لها أهلا وكانوا لها سهلا)).
وكانت من الذاكرات الله كثيرا حتى إنها تعجز أحيانًا عن مجاراة من معها في المجلس لشدة استغراقها في الذكر، وأحيانا تقول إنها رأت قلبها وهو يكتب لا إله إلا الله على الجدار. ومرة قالت إن بيت الله الحرام تراءى لها وهي مضطجعة فرأت نفسها وهي تطوف به دون أن تبرح مكانها.
وأحيانا تنفتح شاشة أمامها كشاشة التلفزة فترى الأشياء البعيدة، فمن ذلك ما حدثت به أنها مرة كانت في سيارة ذاهبة من توجنين إلى وسط العاصمة، فلما وصلت إلى تن اسويلم وهي مستغرقة في أذكارها انفتحت لها تلك الشاشة فإذا بعاملة في البادية تدق الزرع في مهراز لها، ثم انشغلت عن زرعها قليلا فجاءت عنز فأكلته، فلم تجد ما تصنع به العيش للأسرة التي كانت تطبخ لها، فجاءها أبو الأسرة وأمها غضبانين فعاتباها أشد عتاب، قالت عائشة: فجعلت أتفكر في قدرة الله تعالى وفضله، أسرة تتعشى كل ليلة ولم تستطع أن تصبر ليلة واحدة عن العشاء.
ومع كل هذه الكرامات الكثيرة التي لم نذكر منها إلا غيضا من فيض فإنها لم تكن تحتفل بها أو تنشغل بأمرها، وقد سئلت مرة عن كراماتها فقالت: إن الكرامات من فضل الله تعالى، ولكن التشوف لها تلصص لا ينبغي، و ليست هي الغاية بل الغاية الله و رسوله.
ترجمة والدتنا الولية الصالحة العالمة عائشة بنت المختار بن حامدن
(الحلقة الخامسة)
ومن أعجب أمورها في آخر عمرها أن أخانا الأكبر محنض بابه بن الشيخ زار ابن عمها الولي الصالح المرابط محنض بابه بن امين بحاضرة الدوشلية، فسأله المرابط محنض بابه عن عمر والدنا الشيخ بن محنض حين توفي كم كان؟ فقال له: أربع وسبعون سنة (شمسية)، فقال له المرابط محنض بابه: وكم عمر عائشة اليوم؟ فقال له: أربع وسبعون سنة (شمسية).. ولم يفهم الأخ حينها أن ذلك كان إشارة من هذا الولي إلى حضور أجل عائشة...
أما هي فقد اتصلت قبل نحو أسبوعين من وفاتها بجميع أرحامها من أبناء عمومتها أولاد بارك الل وأخوالها أهل أحمد البشير طالبة المسامحة وواصلة الرحم، وكتبت ديونها، وكانت قد أوصت بمن يغسلها ومن يصلي وعليها ومحل دفنها إذا توفيت.
ولما لم يعد يفصلها عن هذا الأجل إلا أيام قليلة اتصلت علي عبر الهاتف ذات صباح قائلة: لقد زارني والدي المختار (التاه) البارحة في المنام ومعه جمع غفير من الأموات، ومعهم الولي الصالح شيخ حاضرة آمنيگير الشيخ عبد الله بن امين (الأخ الأكبر للشيخ محنض بابه)، وقالت لي: ما لم أفهمه هو وجود الشيخ عبد الله بن امين وحده من الأحياء بين كل هؤلاء الأموات.. ثم كان الشيخ عبد الله بعد أن فاضت روحها الطاهرة أمس هو من سيتولى الذهاب إلى مقبرة آمنيگير وتجهيز قبرها الذي سيؤويها ريثما تصل.. فانحلت على ذلك رؤياها المتقدمة..
ولما حضرتها الوفاة يسر الله تعالى أحوالها فأحست بالغثيان أولًا عصر الجمعة، فلما كان من الليل دخلت في غيبوبة ظلت فيها حتى أسلمت الروح لبارئها ظهر السبت، عن أربع وسبعين سنة شمسية، سبع وسبعين سنة قمرية، ويسر الله تعالى جميع أحوالها من تجهيز وصلاة ودفن ونقل على وفق ما كانت تحب رضي الله تعالى عنها، فدفنت بمقبرة جدها العلامة محتض بابه بن اعبيد بآمنيگير إلى جانب أخيها يحيى بن حامدن، وأخيهما الأكبر محمد بن حامدن وأجدادهم حامدن ومحمذن ومحنض بابه بن اعبيد رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
ولما توفيت رحمها الله تعالى استمرت الرؤى المبشرة بها من الصالحين، فقد اتصل بي صباح أول أيامها في البرزخ ابن خالتها الولي الصالح محمذن ولد محمودا من ابير التورس فأخبرني أنه رآها في البرزخ وقد فرح بها أهله واستقبلوها استقبالًا عظيمًا.. وأخبرني إمام مسجدنا الجامع في توجنين القطب بن محمد محفوظ أنه رآها وقد توجهت مباشرة بعد وفاتها إلى المواجهة الشريفة بالمدينة المنورة..
وأخبرت عن أخيها حامدن بن المختار بن حامدن أنها لم تزل في رفقة مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منذ وفاتها.. وأخبرت أن المحبة العابدة الصالحة عيشية بنت ضياء الدين الجكنية نسبًا الكمليلية موطنا نزيلة لبيرد أخبرت أنها رأتها وقد نبتت لها أسنان جديدة جميلة فقالت لها: ما هذه الأسنان؟ فقالت لها والدتنا عائشة: هذه أسنان الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت لها وما فعل الله بك؟ قالت: بجلني ربي.
كما أخبرت أن المحبة الصالحة المصلية على النبي صلى الله عليه وسلم آمنة بنت ابرهام العلوية أخبرت أنها جاءتها صباح أمس وقالت لها: أخبري العيال أني في نعيم مقيم مع سيد المرسلين ضاحكين مستبشرين، وألا أحد يطالبني بحق.. تغمدها الله تعالى بواسع رحمته وجعلنا من بعدها قومًا صالحين...
وأخبرتني المحبة الصالحة المداحة زينب بنت أشفغ أعمر أنها أخذت بعد وفاتها بليلة أو ليلتين في مدح النبي صلى الله عليه وسلم تريد لها ثواب ذلك، فلما استغرقت فيه إذا بالنبي صلى الله عليه وسلم قد حضر ومعه والدتنا عائشة وجمع من الناس لم تعرفهم، فأخذتها حالة تشبه القشعريرة وهي جالسة مستيقظة غير نائمة ثم ثبتها الله تعالى في ذلك المشهد..
وأخبرت أن المرأة الصالحة المحبة مريم (ميم) بنت سيد أحمد بن محمذن بن محم لقيتها بعد وفاتها وأوصتها على أمور أبلغت بها أختنا الكبرى ابتسام..
ووضع الله تعالى لها القبول بعد مماتها فجاءتنا التعازي فيها من شتى الأصقاع، وكثرت شهادات العلماء والصالحين وأهل الفضل لها بالخير، وحصل من مراثيها بالأدبين الفصيح والحساني مجلد كبير، ومن أبلغ ما قيل فيها وأوجزه قول القائل:
((المحاظر يتمو@ والمنابر صمتو والمداحه جتمو@ من رحمت عيشة))
وقد أرخ الأستاذ محمدن ولد عبد الله ولد محمودن (بودن) الديماني لوفاتها بقوله:
((عائشة سليلة المختار
سليل حامدن أخي الفخار
إلى جوار ربها جل سعت
وللأسى قد هيجت إذ ودعت
هذي الدُّنَيَّا عقب الزوال
من يوم سبت النصف من شوال
في عام واحد وأربعينا
والألف قبل أربع مئينا
من هجرة الأمين خير الأمنا
وليست الدنيا لحي وطنا
موافقا عشرين عاما باديه
من بعد ألفين من الميلاديه
ودفنت بمدفن المنيگر
مع معشر فضلهمُ لم ينكر
وعمرها سبعًا وسبعين وصل
هذا إذا بالقمري العد حصل
قد حازت الفخار والمعنى الجزيل
من بيتي الشرف والمجد الأثيل
بيت الأب الأبي عنيت بابا
باب المعارف محنض بابا
وبيت الام بيت ذي الفضل الشهير
عنيت أحمد سلالة البشير
لا غرو إن حازت من المكارم
عائشة سليلة الأكارم
يارب فارحمها ولقها السرور
والطف بها يا ربنا يوم النشور
واحفظ وبارك ربنا في الخلف
واجعله خير خلف للسلف)).
رضي الله تعالى عنها وأبقى علينا من بركاتها إنه سميع مجيب..