دخلتُ هذا الفضاء على شيخوخة،.. فقد ظلَّت حبيبتي السيده إجيرب ورائي لزمن، تغريني بالباطل، الى أن أقسمتْ عليَّ يومًا أن افتح حسابًا...ففعلتُ لأجنِّبها اطعام عشرة مساكين من راتبٍ عمومي،.. وانتسبتُ للمجهول الأزرق،.. لكنِّي صعقتُ من تفاهة المكتوب و كثرة البثور القبيحة على وجهه .. لحدٍّ مُكْربٍ .. وعهدي بالضعيف من جيلي، أقلّه نقاوة اللغة وسلامة الحرف... ، ..
ذات يومٍ،.. وكانت صفحتي أقلّ شأنا من أن تُربِّي لنفسها أصدقاء مُتميزين، استقبلتُ تعليقًا على منشورٍ كسيح الإبداع من وسْمٍ يحمل زنابق صفراء.. ويتسمَّى صاحبه "ذاكو وينهو"،.. لم تكن حروفه من سائر معاش أهل الفيس اللغوي،.. استضاءت في أعماق ذاكرتي ذكريات عن أقلام سلسة جميلة، تُسَخِّن الشَّهية ... دلفتُ في الحين الى حسابه، فذهلتُ من المستوى.. تقدَّمتُ، وطلبتُ فورًا يد الصَّفحة،.. صداقةً على سُنَّة حرفٍ عارم الإحساس،.. يُحسن عناق الجمال.. ثم انطلقتْ الظاهرة "ذاكو وينهو" ،.. فاخترق كالشعاع جواهر صفحات الصَّف الأول ، كتابة وتعليقا، ونشرَ ألوان طيفه الجميل.. كمدينة أحلام مُضاءة.
استغربتُ – كغيري – من الظاهرة المُباغتة، السَّاخرة،.. فهو من النَّوع الصَّادق المُندفع.. من أين ظهر فجأة؟..أين كان مرقده؟،.. لا أحبُّ كثيرا الأسماء المستعارة وأتحاشاها.. من باب "مِتنْ لوجِهْ مثلا"!..
ثم إن "ذاكو" ينحو في بعض كتاباته الى الجُرأة السَّافرة أحيانا، والجسارة في تجاوز ما تسمح به الإشارة الصفراء في اللفظ الى الإشارة الحمراء ... فنفرتُ وتوجَّستُ.. قلتُ ربَّما طالِبُ شهرة بإثارة .. لعبتْ الأحكام المسبقة لعبتها المشكِّكة ... فتابعته عن بُعد .. لأكتشف أن ضعف خبرتي في مياسِم الأدب حال بيني و استيعاب أنماط شخصية قلم "ذاكو"،.. فالأمر لم يتجاوز منه اشتهاء حروفٍ لهُ، يَعرفُ أصلاً كمْ هيَّ حسناء،.. فغرق مع الشَّهوة في كتاباتٍ من سحرٍ.. في نغمات مرحة، مازحة، مُضحكة، لا علاقة لها بقلعة الجسد..
"ذاكو وينهو" أيضا كبرياء، و سرعة تعبير .. فهو لا يجارى ولا يبارى في الوقت..
طالعني الفيس البارحة من صديقي العزيز "ذاكو وينهو" بخطبة وداع تُؤذن بافتتاح حقبة " رَتْرَتْ" .. صديقي لا أعرف ملامحه و لا فصيله،.. أعرف فقط روحه الجميلة..
خمسينيٌّ يودِّع الطّبشور.. الطّبشور من أنبل أسلحة الفرسان...كان ذلك -طبعًا- قبل أن يُمارس المال تجارة الرقيق على بياضِه...ويُذلّ عِفَّته ليدفع الجزية للزَّاهدين فيه عن يدٍ وهو صاغر..
أيها الأستاذ الجليل.. الآن، ستجد الوقت للنَّظر الى داخلك.. ستكتشف روعة شقاواتٍ كنت تجهلها عن العياَّل ..ستتمتَّع بالجمال النَّاضج على مفاتن التوازن والمودَّة لأم العيَّال، ..وستكتشف معها أن ثمَّة في مكانٍ ما من الوجدانِ أشياء كثيرة مؤجلة لهذه اللحظة.. ستكتشفُ أيضا مُتعًا صغيرة سرقتها منك تفاهات روتين العمل.. القراءة فجرًا، المشي أصيلا، دعوات لعجائز من الرَّحم يسمعونك نفس الحكاية للمرة الألف برواية صادقة لا تزيد حرفا ولا تنقص.. ستخطو الى الله في طمأنينة من لا يخاف التَّأخر عن الدَّوام ، وسترافق السَّالكين درب الطاعة لوقت أكثر.. وتقترب
في منتصف ماراتون الحياة سيِّدي، تستقر إبرة ميزان العمر على مؤشر التَّوازن العقلي والعقدي،.. لا انبهار، لا شك،.لا تَعَطُّش.. اسقرتْ المواقف الذَّاتية اتجاه الناس والأحداث والأشياء في حفرها...
عزيزي "ذاكو وينهو" تحية اجلال مُستحقة لنفسٍ أبية و أمثولة في العطاء تُحتذى، احترقتَ لتشكِّل وعيَ أجيال بائسة، بعيدًا عن بقعة ضوء تتصارع من حولها الحشرات و نفوس مُسرفة البشاعة...
تحية لجيلٍ لم يكن المال مأربًا لحياته،.. نَهل من الإيمان بالوطن نوعاً من اليقين المرّ بشيء اسمه موريتانيا... وكان يتطلَّع في جدٍّ لا تشوبه المنافع الى أفقٍ حيّ.
أوصيتَ خيرًا بتعليم افنيتَ فيه الشَّباب والصّحة،.. وعاصرته مُشاهدا وقَيِّما وهو يتحول لنشازٍ صاخبٍ، مُتخبطٍ، جدير بالرَّثاء.. و يقنعُ باحتقاره.
ونقول لك بدورنا ان ثمة تركات لا يجوز التَّخلي عنها تحت طائلة الانحطاط.. واصل العطاء.. فلن تَقمعَ داخلك التَّسلط المثابر لنداء الواجب.
أما نحن، فننتظر منك بإذن الله نفحات من "إمْرادْ أهل رَتْرَتْ" .. و ألاَّ حدْ إخفَّفْ، أراهم تكَبظهم رطله امتينه بداية.
تحيتي سيدي الكريم.