إعلان

من جميل الذكريات ....

اثنين, 07/30/2018 - 00:26

أحمد سالم سيد المختار

 

حاولتُ قدر الإمكان - أثناء تحضيري لإعداد بحث التخرج " الليصانص " من قسم الدراسات العربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية - جامعة انواكشوط 2012 ، الذي اخترتُ لها عنوان : " القصيدة الموريتانية الحديثة : البنية والدلالة " _ تصحيحَ معلومة تاريخية كان بعض الأستاذة والدكاترة قد أوردها في تآليفه والمثال علي ذلك كتابا " الشعر الموريتاني الحديث 1970 - 1995 " و كتاب " الشعر الموريتاني الحديث 1960 - 1995 " .... وغيرهما من التآليف كثير .. وهي أن تاريخ ميلاد شعر التفعلة " الشعر الحر " في موريتانيا كان مع الشاعر الكبير أحمدُّو ولد عبدالقادر والحقيقة أن ميلاد هذا الشعر كان مع الشاعر محمدن ولد أشدُّو بقصيدته " طابور " سنة 1967 .
وقد أجريتُ مع كل منهما مقابلة لهذا الغرض ، فكانت مقابلتي مع الشاعر الرمز أحمدُّ ولد عبد القادر عن الموضوع بمنزله يوم الإثنين 18:00 مساء بتاريخ : 23 / 04 / 2012 فحالني إلي المقدمة التي أعدَّها لديوان محمدن ولد أشدُّو "أغاني الوطن" والتي يقول فيها : " ... وعليَّ أن أنبِّه إنصافا للحقيقة ، عكسا لما نسمع من بعض المحاضرين و الأساتذة ( ...) أن تاريخ شعر التفعلة جاء في العام 1971 بكتابة قصيدة 'ليلة عند الدرك' من انتاج مُعدِّ هذه المقدمة ( أحمدُّ ) والحقيقة أن الأستاذ أشدُّو هو الأسبق إلي تجربة هذا النمط من الكتابة الشعرية . ص : 16 - 17 من ديوان أغاني الوطن للأستاذ محمدن ولد أشدُّ . " 
كما أجريتُ مقابلة مع الأستاذ محمدن ولد أشدُّ في مكتبه يوم السبت 17:00 مساء بتاريخ 21 / 04 / 2012 فحسم لي الجدل قائلا : " كنتُ أول رائد لشعر التفعلة في موريتانيا ، ورأيتُ فيه خلاصي من معانتي السياسية و الاجتماعية والثقافية ، ولكني في الوقت الراهن قوضتُ تلك الأطروحة ، فالجديد عندي هو التمسك بالأصالة ، بالدراعة والخيمة و المثل والأخلاق والعادات المعروفة عندنا وبالشكل القديم للقصيدة ، وهذا هو اقتناعي ". وحدَّثني في نفس المقابلة عن الظرف الذي أنتج هذه القصيدة الحديثة قائلا : " كانت لحظة انفجار ، لقد كان الوضع الصحي لسكان مدينة كيفه ولعصابه عموما منهارا ، وكانت الملاريا تحصد مئات الأرواح والمعاينة و التشخيص شحيحان والدواء نادر ، فصرختُ ! :

"ثلاث ساعات تدور ...
حول الصخور
بين القبور 
- طابور .. !
طابور .. ؟
- يا دكتور 
طفلي يموت
بباب المستشفى
بدون دواء !
يا للمصير !
أين الضمير ؟
أين النصير ؟ "

ففي هذي السطور يكون المشهد قد نُقل إلينا وكأنا حاضروه بأناته و صرخاته .. مشهد رهيب ... استوحى من هذه الأسطر بحقول دلالية ترتبط بالرعب والذعر ، حيث يمهد لها : ( ثلاث ساعات تدور ...) وهو يردِّد : ( طابور .. ) الفاجعة الأولى : طفلي يموت ... فيأتي الحسم مع : يا للمصير .. فما من مُجيب فما من مجيب !؟

يواصل الشاعر قائلاً :

"أمرك يا دكتور 
والدكتور 
من بابه الخلفي
يدخل العظماء
يدخل الأغنياء
يدخل الأصدقاء
يدخل الأقرباء
يفحصون ...
يعالجون 
بالمجان ..... "

في هذه الأسطر يخبرنا الشاعر بأن الموقف قد تغيّر ، وأن الطبيب قد عاد ، لكن لا جديد فالألم يزيد والأحاسيس تتجدد ، فيبدأ الطبيب يدخل مقربيه ... والأدهى والأمر من ذلك هو تلك الأحاديث التي يتحدث بها الطبيب مع مقربيه وأهليه .. والمرضى ينتظرون علي أحر من جمر .. !

يواصل الشاعر قائلا : 
" - هذه الفوضى !
- هذه الضوضاء !
- هذا الوباء ! "
أحاديث قاتلة .. ومؤلمة .. ومحزنة .. ورابع الثلاثة المرض الشديد الذي لا يحتمل الانتظار ...
إلي آخر القصيدة ...

ثم تلتها من الناحية التاريخية قصيدة " ليلة عند الدرك " للشاعر أحمدُّو ولد عبدالقادر وحدَّثني في نفس المقابلة السالفة الذكر عن بداياته مع هذا الشعر قائلا : " أول ما سمعتُ هذا الشعر " شعر التفعلة " الذي يُمثِّل بدر شاكر السياب نموذجه في مثل قوله : 
والشمس والخمر الهزيلة ..
والذباب ..
وحذاء جندي قديم ..
تتداوله الأيدي ..
وفلاح ..
فهذه أشطار من قصيدة له يصف فيها وضع الغروب في إحدى القرى المتخلفة بالعراق .
والحقيقة أنني لم يكن نفوري منه قويا ، وإنما كان شعوري اتجاه هذا النمط مزيجا بين الاستغراب والاستحسان في نفس الوقت ، استغرب شعرا بلا قافية وبلا أشطار متوازية ، وفي نفس الوقت أطرب وأتذوق موسيقى بحر الكامل المنسجمة في النص .
وأذكر في أواسط الستينات قرأتُ كتابا للمسمى عبدالرحمن الشرقاوي بعنوان : " مأساة جميلة أبو حيرد " ( وهي مناضلة جزائرية عذَّبها الفرنسيون بعدما فجرت ثكنة عسكرية ) أتذكر أن تلك الملحمة تدور حول قصة تلك المناضلة وأنها شعر علي بحر الكامل بدون قافية .
وعندما أردتُ أن أكتب قصيدة : " ليلة عند الدرك " استفدتُ من هذا المنهج . "
لقد استفاد الشاعر أحمدو ولد عبد القادر من قرآة كتاب " مأساة جميلة أبوحيرد " من ناحية المضمون ، وقصيدة بدر شاكر السياب " الشمس والخمر الهزيلة ..." من ناحية الشكل ، ليكتب أول قصيدة من شعر التفعلة بالنسبة له " ليلة عند الدرك " وثاني قصيدة من الناحية التاريخية ، متحدثا عن تجربة سجين موريتاني يناضل من أجل بقاء لغة الضاد .. وكادح يستجوبه الدركيون في يناير 1971 يقول فيها : 
قالوا له :
ماذا تضيف ؟
لا تخف عنا أي شيء 
فالنار و الكرباج 
ينتزعان من رأس السجين

فهكذا يصف الشاعر طريقة التعامل الفظيعة مع السجين ، فيذهب إلي السجين متحدثا عنه قائلا:

فاستحضر المسجون من أعماقه ..
آراءه ، أفكاره ، أهدافه 
وتذكر الوطن المكبد بالقيود
والثائرين علي السلاسل والجمود

فينتقل الشاعر من سرد هذه الثوابت التي جعلت هذا السجين لا ينهار ولا يقرُّ أمام مقرريه ولو بشتى طُرق التعذيب وأنواعها وأشكالها ، لما يتذكره من ثوابت النضال والدفاع عن حقوقه ومسؤولياته اتجاه الفرد والمجتمع .
ولانتشار هذه القصيدة علي صعيد واسع ولنضجها ربما علي سابقتها أُعطيت السبق ، مع أنه يشفع للأخرى كونها حازت السبق لنفسها بقرابة 4 سنوات والبدايات بطبعها متعثرة كما يُقال ، يبقى السؤال المطروح : هل يشفع للبدايات سبقها علي نضجها ؟ أم هل يشفع للاحقة انتشارها ونضجها نسبيا علي سابقتها ؟ أم علينا احترام ترتيب الزمن كما هو ؟