مباركة بنت البراء
ذات حين، وأيام تحكيم برنامج "شاعر الرسول" كنا قد دأبنا على أن نختار شاعرا موريتانيا في كل حلقة، فنقدم سيرته الذاتية، وبعض مدائحه النبوية.
وطلبوا مني أن أقدم نبذة عن العلامة " البراء بن بگي"، وأثناء الحديث عنه ذكرت عرضا أن الشاعر أبوبكر الملقب "بكن" الفاضلي، مدحه بأبيات كانت سبب عودته إلى مرابع القبيلة، بعد أن هجرها زمنا، فقاطعني أحد الأساتذة متسائلا ومتعجبا:
-" وهل يعرفُ بَكِّنْ أن يمدح"؟؟
لقد كان للسؤال وجاهته، فارتباط ذكر الشاعر بقصائد هجائية، جعل الكثيرين يأخذون عنه فكرة مسبقة، ويصنفونه مع شعراء كالحطيئة، وبشار بن برد، ودعبل الخزاعي، وغيرهم ممن طالت ألسنتهم القاصي والداني، غير أن الشاعر "بكن" كانت له وقفات جميلة في أغراض الشعر الأخرى ، وخاصة في المدح.
فذات سنة مجدبة، منح أحد وجهاء قبيلته ويسمى "عبد العزيز" قطيعا من البقر لأسر نزلت على الحي، ولم يكن لديها ما يقيم الأود ؛ فحرك هذا الفعل النبيل دواعي القول لدى "بكن" ؛ فمدحه قائلا:
َأرَى عَـبْـدَ العَــزيــزِ فَــتًى إذَا مَــا@تَـتَـايَعَتِ السِّـنِيـنُ عَلَى السِّنِـيـنِ@
يَـصُـولُ عَلَى الْمَكَارِمِ لَيْسَ يَلْوِي@ لِـدَفْـعِ النَّـائِـبَــاتِ عَلَى مُـعِــيـــــنِ@
حَـقِــيـقًـا ما رأيْــتُ أَحَــقَّ مِـنــه@ بِـقَــوْل فِـي عــرابةَ مُستبينِ@
"رَأَيْـتُ عرَابَـةَ الْأَوْسِـيَّ يَسْمُـــو@ إلَى الْـخَـيْـرَاتِ مُنْـقَـطِـعَ الْـقَـرِيــنِ @
إِذَا مَـــا رَايَـــةٌ رُفِــعَــتْ لِـمَـجْــدٍ@ تَـلَـقَّــاهَا عُـــرَابَـــةُ بِالْـيَــمِـــيـــــنِ@
وعندما دخل قومه في شريعة حامية الوطيس مع إحدى قبائل المنطقة، وانقسم أصحاب الفتيا ما بين مؤيد ومعارض، وصل الأمر إلى الحاكم الفرنسي بالمذرذرة، وحشر الناس لليوم الموعود، وقرر القاضي استنادا إلى فتاوى العلماء، القضاء للقبيلة الأخرى، ولم يبق إلا أن يختم الحاكم الفرنسي على الحكم الصادر من القاضي ليصبح ساري المفعول.
عندها بادر وجيهان من القبيلة تحت جنح الليل إلى الحي الذي يقيم فيه "المرابط" البراء بن بگي، مستنجدين به، وكان قد أسن، وأخذ منه الكبر، فلما سمع نأمة الجمل أمام خبائه قال لزوجه: لقد هزم القوم!
لم يتردد في الذهاب، فتخيروا له مكانا لائقا بينهما، ووصل الركب صبحا إلى المذرذره، وقد غصت بأنصار الفريقين، وقصد الشيخ منزل القاضي وطلب منه أن يطلعه على حيثيات الفتيا، فطالعها وإذا به ينقضها من أساسها، فتصدر لصالح ذويه. ويرجع الشيخ الكبير إلى مضارب أهله قرب "بظي"، عندها يلتم جمع القبيلة وتقرر أن تراضي الشيخ الذي حمل لها نصرا غير متوقع.
وتتحرك بواعث القول عند الشاعر "بكن" فيقف بين يدي البراء وينشد:
أَتَـيْـنَــاكَ وَفْـــدًا يَـا بَـــرَاءُ نُــرِيـــدُ@ بِـأَنَّـكَ مَـعْـنَــا لِلْخِـيَّـامِ تَــعُـــودُ@
"أَبَـا خَالِدٍ ضَاقَتْ خُرَاسَانُ بَعْدَكُمْ@ وَقَـالَ ذَوُو الْحَاجَاتِ أَيْـنَ يَـزِيـدُ؟@
فَمَـا قَطَـرَتْ بِالشَّامِ بَـعْدَكَ قَطْرَةٌ@ وَمَا ابْـتَـلَّ بِالْمَـرْوَيْنِ بَعْدَكَ عُودُ"
نعم، يبدو أن بكن الفاضلي يعرف أن يمدح، كما يعرف أن يهجو!