استرعى هذا النص انتباهي منذ مدةٍ، واستحسنت صياغته وإيقاعاتِه الراقصةَ، وكنتُ أرى فيه تعدادا جميلا لأماكنَ ألِفَهَا الشاعرُ، وَشَكَّلَتْ جزءا من وجدانه الاجتماعيِّ، وتَمَثُّلِهِ الإبداعيِّ، فَخَلَّدَهَا بأسلوبٍ غنائيٍّ تقريريٍّ سلسٍ.
إلا أن قراءةً جديدةً تَسَنَّتْ لي في هذه (الطلعه)، وأَرْبَكَتْ قراءتي الأولى لها؛ والتي كانت تعتمدُ النصَّ جُملةً دونَ التدخلِ في مساره، في حين تُلْغِي قراءتي الجديدةُ أغلبَ هذا النصِّ، ولا تُبقِي منه إلا على (التِّيفلواتنْ) الأربع الأولى.
والطلعه هي هذه:
مِنْ شَـوْفِي وَانَ مَارِكْ خَـــامْ @@ النَّخْلَه، فِالصَّيْفْ إِفْ لِغْمَامْ @
ذُو لَـيَّــامْ؛ أَلَّا خِـظْـــتْ أَيَّـــــامْ @@ مِنْ شَـوْفْ النَّـخْـلَه مَا نَـخْــلَ @
غَيْرْ أَثْرِي لُو شِفْتْ إِبْهِنْضَامْ @@ امْـعَ شَـوْفْ الـنَّـــخْـلَه، نَخْـــلَ @
هَـاذَ وَكْــــرْ الْــعِــزَّه، ظَـنَّـيْـتْ @@ عَـنْـهَــا مِـنْ شَــوْرُو مَا تَـــخْــلَ@
ؤُجَايِـبْهَا مِنْ جِيــهِـتْ بُولَيْتْ @@ ؤُلَاهُـو جَــايِــبْـــهَــا مِنْ لِـخْــلَ @
هل كان هذا التفصيلُ والنشرُ الذي جاء بعد (التيفلواتن) الأربع الأولى ضروريا؟
للعديد من القراء أن يقولوا كيف لا؟
والطلعه لم تستكملْ بعدُ بناءَها الإيقاعيَّ المعهودَ الذي يَفْتَرِضُ أن تأتيَ (تافلويتان) أو أكثر بعد (حُمْرْ الطَّلْعَه وَكَصْرِتْهَا)، أو أن يأتيَ (الْكَافُ) الذي يعتبر ختامَهَا المعهودَ.
ربما يسمح لي فضاء القراءة الجديدة بأن أقول إن (الطلعه) اسكتملت معناها عندَ (الْكَصْرَه) الأولَى، ولوْ كنتُ القائلةَ - وَأَنَّى لي ذلك- لما زدتُ حرفا على هذه (التيفلواتن):
مِنْ شَوْفِي وَانَ مَارِكْ خَامْ @@ النَّخْلَه، فِالصَّيْفْ إِفْ لِغْمَامْ @
ذُو لَــيَّـــامْ؛ أَلَّا خِـظْـتْ أَيَّـامْ @@ مِنْ شَوْفْ النَّخْلَه، مَا نَخْلَ؟!@
فالسياق حسب قراءتي ، يبرز أنَّ الشاعر بدأ بأسلوب خبريِّ تقريريِّ، وأكملَ بأسلوبٍ استفهاميِّ إنكاري، بدءا من قوله: (ألا خظت أيام) وحتى نهاية التافلويت التي بعدها.
فمجال المعنى الشعري يلائمه الطيُّ والتلميح أكثر من النشر والتوضيح، والشاعر فارق المكان آسفا، وسارقه النظر متبتلا ومتعجبا من فراقه له في عز الحر: (فِالصَّيْفْ)، وهو المكانُ الظليل القريب من ضفة النهر؛ حيث تحلو الإقامةُ في حضن الطبيعة الحانيةِ.
ومنطق الأشياء يجعل التَّلَبُّثَ بهذا المكانِ أجدرَ بالشاعرِ من السفرِ شمالا إلى مرابع قومه بإكيدي حيث رياحُ السموم العاتيةُ، والصحراء القاسيةُ والرمالُ الجرداءُ؛ فلا ظلَّ ولا مرعى.
وليس هذا فحسب، بل إن الشاعر في النشرة الجوية التي قدم ، يفارق (خام النخله) صيفا وقد غطى الغمام الأجواءَ؛ (فالصيف إف لغمام)، وهو ما من شأنه أن يخفف من وطأة الشمسِ، وكثيرا ما يكون نذيرا بهطول الأمطار، مما يبعثُ على البقاء والتشبثِ بالمكان أكثرَ، ويجعلُ خيار السفر عنه أمرًا غيرَ واردٍ الْبَتَّةَ.
لقد كان حريا بالشاعر البقاءُ لا الرحيلُ، وكان الأجدرُ به ألا يغادر المكانَ في وقت كهذا، وفي ظروف مناخية كهذه، ولكنَّ الأمرَ قدْ حُمَّ، والشاعرُ فارقَ المكانَ بقدرة قادرٍ؛ وفي النفسِ من لوعةُ الفقدِ، وألمِ الفراقِ ما اللهُ به عليم.
هذا ما جعله يَـثُوبُ إلى نفسه بعدَ أن خضعَ لجبريَّة القدرِ، ويتساءل مستنكرًا قيامَهُ بهذا الفعلِ:
(... أَلَّا خِـظْـتْ أَيَّـامْ @@ مِنْ شَوْفْ النَّخْلَه، مَا نَخْلَ؟!@
هنا جاء الاستفهام الإنكاري شجبا لهذا الرحيل عن المكان المحبب، والغمام الْمُظَلِّلِ، والمطرِ وَشِيكِ الْهُطُولِ، ليضعنا الشاعر وجها لوجه أمام عجز الإنسان تجاهَ القدرِ، وضعفه عند مواجهتِهِ، وهو معنى وجودي عميق يفتح النص على آمادٍ من التفكر والعبرة، والعجز عن مُواجهةِ التسيير الإجباري الذي ينافي رغبة الإنسان.
لقد استكمل النص بالنسبة لي عند هذا الحد بناءه المعنويَّ والفنيَّ، فقال الشاعر وأبلغ في القول، أما ما جاء بعد هذا فهي جملٌ توابعُ، وتعدادٌ لأمكنةٍ أخرى: (ابهنضامْ- بوليتْ)، واصطيادٌ لمحسناتٍ لفظيةٍ (نخلَ- يخلَ) شغلت فضاءً في مساحة النص ولكنه يظل في غنى عنها، خاصة وأن العبرة في النص الشعري هي قيامه على التكثيفِ والإيحاءِ والإيماءِ، لا على الاستفاضةِ والإفضاءِ.
فليست بقية (الطلعه) إلا استذكارا لأماكن أخرى، وإلحاقا لها بالمكان الأصل الذي تلبس الشاعر منذ البداية بكل حيثياته.
ما حداني إلى هذه القراءة للنص - وكنتُ أمر عليه قبلًا مرَّ الكرام، منتشيةً بإيقاعاتِه المتناغمةِ وسَرْدِهِ الْوَثِيرِ، ومعتبرةً أن الجملَ كلها هي جملٌ تقريريةٌ لم يكسر غلواءها ذلك الأسلوبُ الإنشائيُّ الْمُحَمَّلُ بالاستنكارِ المستفزِّ- هو اطلاعي على (محاذاة) للطلعه، قام بها الدكتور يحي بن البراء، واقترح لها هذه التسمية؛ وأوردها في أبيات أربعةٍ حين يقول:
أَمِنْ تَرْكِ خَامِ النَّخْلَةِ الصِّنْوِ رَاجِعًا ** لِلَاهْلِيـنَ، وَالصَّيْفُ الظِّلَالَ يُنَشِّــرُ
وَرَانَ غَـمَـــــامٌ مُــنْــذِرٌ بِسَــحَــائِـــبٍ ** حَــوَافِـلَ تَسْقِي الرَّبْعَ أَيَّانَ تُمْطِـرُ
فَتَنْمُو شُجُونٌ لِلنُّفُـوسِ مُرِيضَــةٌ ** وَتَكْـبُــرُ آمَــالٌ، وتَـنْـمُـــو وَتُـزْهِـــــرُ
تَظَلُّ لِخَامِ النُّخْلَةِ الصِّـنْـوِ نَاظِـــرًا ** كَبِيــرٌ عَلَى عَيْنَيْـــكَ تَـفْـتَـأُ تَـنْظُـرُ!
نعم، لقد احتاط الأستاذ يحي ولد البراء لنصه حين كتب عنه: "هذه محاذاة للطلعه وليست ترجمة".
وهو بهذا التحديد نأى بنفسه عن مسألة شائكة تتعلق بترجمة الأدب، وخاصة الشعر؛ ذلكَ الخطاب المراوغ الملتبس، الذي يتعذر على غير الخبير الحاذقِ فَـكُّ أبجدياتِهِ، وتَمَثُّـلُ معانيهِ، أَحْـرَى ترجمته إلى لغةِ أو لهجةٍ أخرى.
فالترجمة - وكما يقول الجاحظ -: "لا بد أن يكون صاحبها أعلمَ الناس باللغة؛ سواء الْمُتَرْجَمِ عنها، أوالْمُتَرْجَمِ إليها، ويتوقفُ عند ترجمة الشعر توقفا دَالًّا وذكيا حين يقول: "والشعر إذا تُرْجِمَ ضَاعَ نَبْضُهُ وَاهْتَـزَّ وَزْنُهُ".
لقد كان صاحب البيان والتبيين ذكيا في هذه الإلماحة إلى استحالة ترجمة الشعر، فلو افترضنا أن الوزن استقامَ عروضيا باللغة المنقولِ إليها، فإن النبضَ وهو لُبُّ الحياةِ في الشعر وفي كل كائن ذي بَالٍ، سيُفْتقَدُ لا محالة، وبدون هذا النبض لن يكون الشعر شعرا.
إنه تفطن ذكي لاختلاف عبقريات اللغات بعضها عن بعض؛ فعبقرية اللهجة الحسانية تختلف اختلافا بينا عن عبقرية اللغة العربية، رغم أنها رَبِيبَتُهَا وَرَضِيعَةُ لَبَانِهَا.
ومن هنا تبقى ترجمةُ (لِغْنَ) إلى الشعر، أو الشعر إلى (لغن) مغامرة لغوية قلما تؤتي جزءا من أكلها مما يُرْضِي شَجَنَ الْمُتَذَوِّقِ والناقد، ويسمحُ باستثمار النص استثمارا إبداعيا.
نقلا عن صفحة الدكتورة باته بنت البراء