تشرفت بدعوة من منشورات خالدة الذكر خديجة منت عبد الحي لحضور ندوة تذكارية للدكتور جمال ولد الحسن- رحمه الله - بمناسبة عشرين عاما علي رحيله .فقادني التأمل في هذه البطاقة إلي سنوات الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي حيث كانت الشاعرة خديجة منت عبد الحي واسطة عقد مجالس الفكر والأدب في موريتانيا والوطن العربي, فقررت أن أكتب ورقة تعريفية عنها لجيل الألفية الذين ولدوا بعد أن ارتقت خديجة إلي بارئها مخلدة أعمالها في وجدان معاصريها وطلابها وقرائها .
ورقة تعريفية
في بيت والدها العلامة عبد الحي ولد أتاب ولدت خالدة الذكر خديجة منت عبد الحي سنة 1965 و نشأت في بيت علم وتأليف وأدب وشعر وظهرت عليها علامات النبوغ مبكرا. درست العلوم الشرعية واللغوية على والدها ثم دخلت التعليم النظامي وحصلت على شهادة الإعدادية سنة 1981 بتفوق ثم شهادة الثانوية سنة 1984 وتخرجت أستاذة من المدرسة العليا لتكوين الأساتذة سنة 1988.
ولم يمنعها التدريس وتربية الأجيال من ممارسة هوايتها التي وجدت فيها ذاتها ألا وهي الكتابة الهادفة في مختلف المجالات وقرض الشعر بنوعيه العمودي والحر حيث كانت شاعرة لا تبارى بشهادة جيل العمالقة آنذاك الذي كان في أوج عطائه في تلك الفترة.
بعد تخرجها أستاذة سنة 1988 حصلت الأستاذة خديجة منت عبد الحي على أول جائزة للشعر النسوي في موريتانيا سنة 1989 ثم جائزة مسابقة الشعراء التي نظمها التلفزيون الموريتاني سنة 1990 .
و لشغفها بعالم الكتب والقراءة والكتابة انتقلت من حقل التدريس إلى العمل أمينة للمكتبات المرتبطة بوزارة الثقافة فأثرت الساحة الثقافية محليا وعربيا بجميل المنظوم والمنثور .
يمكن القول إن الأستاذة خديجة منت عبد الحي كانت شخصية متعددة الأبعاد والاختصاصات فهي شاعرة مجيدة وكاتبة متميزة القلم وصحفية مقتدرة وناقدة أدبية. وقد نشرت مقالاتها وأشعارها في كثير من الصحف المحلية والعربية مثل صحيفة الشعب والشروق والمحيط والموكب الثقافي والرباط الثقافي وكانت لها مؤلفات في مجال القصة و الرواية كما صدر لها ديوان مطبوع.
وفي سنة 1999 صدر لها كتاب بعنوان " نقوش على جدران الحافلة " ضم ثلاثين مقالا صحفيا توزعت موضوعاتها مابين الفكري والإجتماعي .
وقد تميزت الشاعرة والكاتبة خديجة منت عبد الحي بسلاسة الأسلوب وحسن الصياغة والخيال الشعري المجمح .وتعد في مصاف الشاعرات الموريتانيات الأوائل اللائي تميزن بشاعريتهن وتفوقهن على النقد الأدبي بالإبداع كما شهد بذلك النقاد المعاصرون .
شاركت في مختلف التظاهرات الفكرية والثقافية محليا وعربيا ونشرت بعض قصائدها في" معجم البابطين" الذي صدر عن" هيأة البابطين الأدبية " في الكويت في أواسط التسعينيات و من هذه القصائد: الأرجوحة و أنشودة الصحراء
كان قلمها وفيا سخيا لقضايا الأمة والوطن ولا يزال طلبتها يتذكرون مقولتها التربوية الخالدة: "إن ما يحصل عليه الإنسان بدون جهد ينبغي أن ينظر إليه نظرة تحفظ ومراجعة فثمة حقيقة ثابتة هي أن الإنسان يأخذ بقدر ما يعطي فإذا ظل يأخذ بدون أن يعطي تردى في هاوية الذل والتبعية وحرم من نسيم الحرية أحرى أن ينعم بالسعادة التي هي غاية لا تدرك ".
هذه المقولة الخالدة تجعلنا نشعر وكأنها تعيش بيننا الآن أو أنها استشرفت ما سيتعرض له حقل الفكر والأدب من مساومة وإغراء . وهي تلخص منهج خديجة منت عبد الحي في الحياة ؛ من تعفف عن مال الحكام والرؤساء والملوك وحرص على العمل الشريف وصيانة للقلم عن الاستغلال والمتاجرة به’ ومن حث على التمسك بالمبادئ والمحافظة علي الأخلاق .
كنا ونحن طالبات في فترة التسعينيات ننظر إليها باعتبارها قدوة ومثالا للتمسك بالقيم وعرفنا من خلال ما تبوأت من مكانة في سن مبكرة أن ثقافة الفتاة وإتقانها الشعر والأدب لا يعني التنكر للدين ولا التحلل من القيم والأخلاق. فقلمها ظل يجيب علي معظم التساؤلات التي نطرحها في تلك الفترة الحساسة من العمر في وقت انتشرت فيه كتب التيار النسوي كالنار في الهشيم .
إنها تنتمي إلى جيل من الأستاذات والمربيات نطلق عليه " القدوة " أو" المرآة " بزيهن المحتشم وسمتهن الوقور وثقافتهن الواسعة و اطلاعهن المتجدد ’ نجد فيهن ذاتنا ويحفزننا على المثابرة والبحث والإخلاص للمبادئ والذات وتجنب رفقة السوء.
لقد كانت رحمها الله إضافة نوعية لمحيطها المحافظ وتربة صالحة غرس فيها أهلها ثمار العلم والمعرفة " فاتت أكلها ضعفين "" والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه "
لم تكن بحاجة إلى زيادة معارف أوتكملة تعليم فقد بلغت ما بلغت وهي في الإعدادية ولكن إلحاح الزملاء وتشجيع النقاد وحرص الجامعات على استفادة طلبتهم من معارفها أسباب جعلتها تقرر أن تكمل تعليمها العالي فحصلت على التسجيل للماجستير في الجزائر سنة 1999 وكان بحثها الذي أوشكت على إتمامه متميزا ونوعيا بشهادة المشرفين غير أن المرض لم يمهلها فأرتقت شهيدة بإذن الله سنة 2002 فقررت الجامعة منحها شهادة الماجستير بعد رحيلها تقديرا لجودة البحث وأصالته.
رحلت مربية الأجيال الأديبة الشاعرة والكاتبة المتميزة والصحفية المقتدرة والقارئة الموسوعية خديجة منت الحي عن عمر مبكر لتبقى أثارها أجمل شاهد على العطاء وسعة الاطلاع . تركت وراءها ذكرا خالدا وأعمالا لا تنسى ومكانة لا تضاهي بين القراء والنقاد والطلبة.