كلما حل اليوم العالمي للغة العربية عادت بي الذاكرة إلى القصة التالية، والتي على صلة مباشرة بموضوع اللغة.
لم تمض على مجيئي لوزارة الخارجية سوى اشهر قليلة حتى فاجأني بعض الإخوة الوزراء العرب بمنحي لقب "دكتور".. وفي كل مرة، أصحح وأقول لهم: أنا لست "دكتور"،، ولكنهم لا يعبأون بما أقوله، وينسبونه للتواضع ونكران الذات،،،وتكررت المسألة مرات و مرات.. يقولون لي "دكتور" و أصحح: ما أنا بدكتور"! و ذات مساء أثناء عشاء رسمي على مركب نيلي متحركـ في غاية الأناقة يدعى مركب "فرعون النيل"، سألني د.صباح السالم الصباح وزير خارجية الكويت الأسبق باحترام وأدب عن مسار دراستي للغة العربية وشهادتي فيها من أي جامعة؟ وأمام سؤاله هذا، أحسستُ بإحراج كبير وانفعال، وبدأت عواطفي تتحرّكـ ولونُ وجهي يتغيّر،،، ولكنّي تداركتُ نفسي بسُرعة، وقلت له مازحا: وهل تصدّقني معالي الوزير وأخي العزيز، قال: وكيف لا أصدقكـ وأنت ..أنت؛ رئيسنا وحبيبنا؟ قلتُ: أنا لم أدخل مدرسة عربيّة نظاميّة قط، ولا أحمل من الشهادات إلاّ الشهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمدا رسول الله، و شهادة الجنسية الموريتانية! قال مندهشا: كيف؟
قلتُ لهُ: نعم؛ هو كما سمعتم معالي الوزير، لم تطأ قدماي مدرسة عربية نظامية ولا شهادة عندي إلاّ شهادة الدروس الابتدائة ممنوحة من المدرسة الفرنسية! فشهادة الجنسية الموريتانية هي شهادتي في اللغة العربية. يعني أن بضاعتي في اللغة العربيّة مأخوذة بالكامل من الأسرَة، والمحظورة، والمجتمع، والسّوق، والشارع الموريتاني.. ولا دَور فيها للمدارس النظامية والجامعات. وذكرتُ لهم ما يُنسب للشيخ العلامة محمد سالم ولد عدُّود رحمه الله من أنّ "المشارقة يدرسون في الجامعات،، والشّناقطة في الجَوامِع" مشيرا إلى الفرق بين الجامعة والجامع. وأضفتُ مبتسِما "و معلوم أن للذكر مثل حظّ الأنثيين".
وما إن انهيتُ كلامي حتى انبَهَرَ القَوم وتحَيّروا. ومن طرافة أخي الصباح أنه عرض علي مداعبا أن أبادله شهادتي بدكتوراهُ ويزيد ب 50 ألف دولار ههه. وفي الحال، بدأ حديث شائق وشهي عن البيت الموريتاني بصفة كونه بيئة خلاّقة ومحفّزَة ومساعِدة على التّحصيل. وامتدّ الحديث وانبَسَط ليشمل المحظرة الشنقيطية ودورها وإشعاعها. وشيئا فشيئا، تحوّل العشاء إلى سهرة أدبيّة رائعة انشرحت لها صدور الزملاء وابتهجت قلوبهم،،، وانهالوا بالشكر والثناء على المحاظر والبيئة الموريتانية الحاضنة للغة العربية الأصيلة. و هكذا من فضل الله، تحوّل ضعف صاحبكم وتواضع مستواه الدراسي إلى نقطة قوة لموريتانيا ومحاظرها المجيدة وتعليمها الأصيل.
رحم الله الشاعر محمد فال ولد عينينا الحسني القائل:
إن لم تقم بينات اننا عرب * ففي اللسان بيان اننا عرب.