وصعق الخبر المؤسف كل العاملين في جريدة "الجريدة" ومحبيه، الذين نعوا الراحل عبر مواقع التواصل، مستذكرين مناقبه والمواقف التي تجمعهم به، لاسيما أنه كان مثالاً للالتزام والتفاني في العمل، إضافة الى انه احتوى في نفسه النبل والكرم والشهامة.
الدراسات المقارنة
يشار إلى أن الزميل الراحل عمل في أكثر من مطبوعة، كما أنه انخرط في حقل التعليم في سورية والكويت، وهو خريج جامعة دمشق وحاصل على إجازة في الآداب. وعلى الصعيد الإبداعي، كان شاعراً باحثاً مهتما بالدراسات المقارنة وحوار الحضارات، وله من الإصدارات "معجم لآلئ الأمثال والحكم المقارنة". كما ترجم عدداً من القصائد شعراً لشكسبير وغيره.
مفردات جزلة
واشتهر الراحل بتقديم نتاج أدبي رصين يمزج بين الدقة في اللغة والسلاسة في إيصال المعلومة، عبر جمل مقتضبة ومفردات جزلة. كما اتسم الراحل بالجدية والحزم في أداء عمله، وإن كانت هناك مساحة فكاهية في حياته كان يسعى إلى ترجمتها عبر بعض القصائد الطريفة، التي ينسج تفاصيلها بدقة وإحكام.
"لآلئ الأمثال والحكم"
صدر للراحل في عام 2010، "معجم لآلئ الأمثال والحكم المقارنة... إنكليزي-عربي" متضمنا كنزا نفيسا من درر النثر وجواهر الشعر المختارة من عشرات المراجع الانكليزية القديمة والحديثة، ومن 450 مرجعا عربيا من كتب الأمثال والأدب واللغة والحديث والدواوين والتراجم وغيرها.
ويحتوي المعجم في صفحاته الـ558 على 529 مثلاً وحكمة إنكليزية متنوعة الأغراض والمعاني، لتكشف عن أسلوب تفكير الانكليز وموقفهم من مختلف القضايا والمشكلات؛ كالحب والموت والمال والجمال والصداقة والمصائب والعادات وغيرها، مقارنة بمقابلاتها العربية من النثر والشعر في كل العصور الأدبية. وقدم الراحل بهذا المعجم إضافة مهمة وقيمة الى الدراسات الأدبية واللغوية المقارنة، كاشفا عن الأصول العربية وغير العربية لكثير من الأمثال الانكليزية، ومبحرا خلال بحثه في كل العصور لينقب عن جذور تلك الأمثال عند اليونانيين والرومان وغيرهم، ليرسو في الختام على شاطئ زمننا هذا.
الأبيات الحِكمية
واستغرق الراحل في إعداد المعجم نحو عشر سنوات من العمل الجاد والجهد الدؤوب، حيث اعتمد في تأليفه على أمهات الكتب في اللغتين الانكليزية والعربية، كما يتضمن آلاف الأبيات الحكمية لأكثر من 600 شاعر عربي أغلبهم مجهول لم يطلع على نتاجه الا قلة من المتخصصين، ويحدد الفترة الزمنية التي عاش فيها كل شاعر.
الترتيب التاريخي
وفيما يتعلق بالمنهج المتبع في تأليف المعجم، كان الراحل يورد أولا المثل الانكليزي ويسجل التاريخ، الذي تبلورت فيه صيغته الشائعة في عصرنا، ويذكر اسم قائله أو مدونه، ثم يترجمه إلى العربية، ويشرح معناه اذا كان غامضا، ثم يقارنه بما وجده من نظائره وأشباهه في القرآن الكريم والحديث الشريف والأمثال العربية الفصيحة والمولدة والأقوال المأثورة عن بلغاء العرب وحكمائهم وفي قصائد شعرائهم، ويذكر اسم السورة ورقم الآية والكتاب الذي ورد فيه الحديث أو المثل أو الحكمة، وينسب كل بيت الى قائله اذا كان معروفا، مع ذكر تاريخ ميلاده ووفاته ان كان متوفى، مرتبا الأبيات ترتيبا تاريخيا مبتدئا بالأقدم.
يشار إلى أن الراحل كانت له اهتمامات أدبية وبحثية قيمة، ومساهمات رائعة في ترجمة بعض القصائد إلى اللغة العربية.
نذر الموت
حَفِلتْ معلّقته الكورونية بنذر الموت، وكأن الراحل خالد جميل الصدقة تنبأ برحيله، فقد نشر قصيدته قبل وفاته بأربعين يوماً، ورأى فيها أن فيروس كورونا مارد خفي يبث الرعب والخوف في أوصال سكان العالم المحاصرين في قفص كبير، لا يملكون من أمرهم شيئاً ولا صوت لهم يقهر صوت كوفيد- 19، فالبشر متناثرون بين ذليل ويائس وعاجز، تقطعت بهم السبل وباتوا في حيرة من أمرهم، لا يعرفون الطرق المثلى للنيل من هذا الوباء المتفشي، فأسلحتهم برغم كثرتها لم تجدِ نفعاً في التعامل مع أسلحة الفيروس الخفية والفتاكة والمميتة.
وضمّن الراحل قصيدته مشاعر الحنين إلى وطنه سورية، ويظهر مدى الصدق العميق الذي كان يسكن جوارحه، فكان البوح شفيفاً ممزوجاً بالتورية والخفاء، فلم يكن تصريحاً كاملاً وإن كان مدوناً بين السطور، وهو العارف بدهاليز اللغة وقواعدها، فلم يكن صعباً عليه انتقاء معلقة عمرو بن كلثوم "ألا هُبِّي بصحنك فاصبحينا"، التي ذكر فيها ابن كلثوم مدينتي دمشق والأندرين، فكتب الراحل على وزنها وقافيتها معلقته الكورونية؛ يذهب إلى بلده عبر القصيدة ويتوق إليها بالواقع.
أبا يامن، نبأُ رحيلك مؤلم والكل يرثيك، فقتامة الحزن على فراقك تقضّ مضجع محبيك، لكن مقولتك التي دونتها ذات يوم تموج بالذاكرة وتغرس في الروح بذرتها، ونعاهدك أن "الأحزان النبيلة ستتحول مع الأيام إلى أشجار ورد في حدائق الروح".
أبا يامن، نحن حفظنا الوصايا، لا تخف نم قرير العين، وسنلهج بتدويناتك، لعلنا نجد فيها ما يسلينا، فلن ندع الآخرين يحتلون كل فضاءاتنا الداخلية، بل سنترك لأنفسنا مساحة نتحرك فيها بكامل حريتنا، ولن نهجر ذواتنا.
ومن نتاجه الموسوم بالتنبؤات الأخرى، قصيدة بعنوان "أصداء الصمت"، يقدم الراحل فيها مشاعر جياشة ورؤى خاصة به:
يا هارباً كي لا أراكَ أيا أنا
باللهِ أينَ تكونُ ما أنبائي
قد فاتني صوتي فهلْ لي أنْ أرى
أصداءَ صمتي أو ظلالَ ضيائي
قد فاتني عُمْري وموتي مَن أنا
أنا غائبٌ مَنْ حاضرٌ بردائي
يجتاحُني العدمُ القديمُ وثلجُـهُ
وحنينُهُ الطاغي إلى إلغائي
****
تلكَ الغيومُ الصُّفْرُ تُمْطِرُني ظَمَا
والشَّمْسُ سوداءٌ ولونُ سمائي
والموتُ يغرسُ شَجْرةً مشؤومةً
في خافقي ويجزُّ وردَ بقائي
لافي الشمري
خالد...
كان جميلا صادقا. بشوش الوجه، مترفعا عن الصغائر، محبا للجميع، متواضع الطبع، صافي النية، يجبر الناس على احترامه وتقديره. وكان لماحا، ساخرا، خفيف الظل. يجيد الاستماع إلى النكتة والرد عليها. ظل طوال وجوده في "الجريدة" مرجعيتها في اللغة والنحو والشعر، وأحد أركانها وأعمدتها.
رحم الله الزميل الصديق خالد جميل الصدقة (أبا يامن)، الذي انتقل إلى جوار ربه نهار يوم الأحد الماضي، وأسكنه فسيح جناته، وجعله من الخالدين في النعيم. إنا لله وإنا إليه راجعون...
أسامة أبوزيد
إلى اللقاء أيها الجميل
"إنك مَيِّتٌ وإنهم مَيِّتون"... والموت حق وكل نفس ذائقته، ورغم علمنا بهذه الحقيقة فإن وفاة الزميل العزيز الأستاذ جميل الصدقة، الله يرحمه ويغفر له، لم يكن وقعها هيناً على النفس.
بويامن، كما اسمه، جميل في كل شيء، حتي في طريقة توضيحه لخطأ في عنوان أو في صياغة جملة، كان يوصل ما لديه بشكل يجعل المتلقي سعيداً بالحوار معه، وراضياً بكل ما يقوله هذا "الجميل"، الذي يعتبر مكتبة متنقلة للغة العربية وقواعدها ومصطلحاتها.
كثيرة هي المواقف، التي جرت بينه وبين زملائه... أستاذ بويامن، كما كنت ولا أزال أدعوه به، وفي كل محادثة تجري بيني وبينه بشأن عنوان أو موضوع في الصفحة الأخيرة لابد أن أخرج منها بمعلومة جديدة تفيدني ويكون رأيه هو الأصح.
أيقونة قسم التصحيح كان هو، والمرجع الموثق لكل كلمة أو جملة في لغة الضاد، وهو ابن الشام، حيث لها فيها باع طويل وتاريخ من الأدب بكل أنواعه.
حمل همّ وطنه معه، وكان الأسى يخرج من ابتسامته عندما يتطرق إلى ما آلت إليه أوضاع بلاد الأمويين، وكم حاول بابتسامته أن ينقل الأمل القابع في صدره إلى محبيه وأبناء بلده بأن "الله سيفرجها" وتعود سورية كما كانت صامدة في وجه كل من يريد بها وبالعرب والمسلمين شراً.
كنا نراه والماء يقطر من وجهه ويديه قبيل كل صلاة، وهو متوجه إلى المصلى، راسماً تلك الابتسامة الجميلة، وهو ذاهب ليناجي ربه الذي ارتضاه إلى جواره.
أيها الجميل، لن يقول لك محبوك كما ردد هرقل مقولته لبلادك حينما طرد منها "وداعاً لا لقاء بعده"، بل يقولون لك "إلى جنة الخلد"، حيث سيلتقيك هناك محبوك.
عامر الهاجري
السونات الأخي
لم يمهلنا الشاعر والمؤلف الراحل خالد جميل الصدقة لالتقاط بعض من تلابيب روحه، سبقتنا اختطافة الموت وومضتها، لم يسعفنا لنلمّ طيفه الذي رافقنا سنوات من الألفة وروح الأسرة الواحدة، كان رحمه الله مرجعاً للجميع في الاستزادة من بحر علمه وفيض ذاكرته ودقة كلماته، طيب المعشر، متغافلاً عن الصغائر.
كان رحمه الله عاشقا للغة العربية، فخوراً بأنه أحد فرسانها، يمخر عباب أمواجها بحنكة العارف، محاولاً قدر الإمكان الارتقاء بلغة الصحافة المبسطة إلى المعاني الجزلة والتراكيب الفخمة لأنه كان يرى في ذلك وضعاً للنقاط على الحروف وتكريماً للغة ووضع المعاني في مواضعها.
وكان للراحل عشق من نوع خاص للترجمة وخصوصاً أدب وليام شكسبير وغيره كان يتحدث معنا بفخر عن ترجماته لسونات هذا الأديب الإنكليزي، في خطوة اعتبرها إنجازاً كبيراً لم يسبقه إليه أحد، وحين يقرأ لك مقطعاً منها تستشعر مدى الفرحة في عينيه وصوته وكأن السونات قطعة من جسده وروحه.
برحيله كتب فقيدنا الراحل سوناته الأخير بلحظة خاطفة لم يسعفنا الوقت لنملأ أعيننا منه ولنقول له كم أنت خالد وجميل وصادق، عفيف اللسان، وعزيز النفس، كريم الطباع، بساماً، متعالياً على المرض محتسباً، رحم الله أبا يامن وأسكنه فسيح جنانه وإنا لله وإنا إليه راجعون
تميم أبوحمود
أبا يامن ... بأي فؤاد سأرى مكتبك؟
كيف حال أخينا أبي يامن؟
- الحمد لله هو في تحسن، وفي وقت متأخر من مساء أمس تلقينا اتصالا من المستشفى يطمئننا أنه بخير.
- نسأل الله تعالى أن يشفيه شفاء لا يغادر سقما!
كان ذلك جزءا من الحديث الذي دار بيني وبين أهل بيت أخي الأستاذ خالد جميل الصدقة، حينما أردت أن أطمئن عليه قبل أن يفارقنا بساعات قليلة... لقد أحدثت هذه الكلمات في نفسي تفاؤلا كبيرا، لكن هذا التفاؤل، ولله الأمر، لم يدم طويلا، فكانت مصيبتنا بفقد أحد الغالين علي.
عندما افتتحت "الجريدة" أبوابها منذ ثلاثة عشر عاما كنت قد عرفته قبلها بفترة يسيرة، فرأيت فيه زميلاً محترما دمث الأخلاق واسع الاطلاع، وعندما عملنا تحت لوائها ازدادت علاقتنا متانة، ومودتنا رسوخا، فرأيت إنسانا نقي القلب طاهر النفس، لا يحمل غلاً لأحد.
كان اسما على مسمى، فقد كان خالد جميل الصدقة، جميل النفس ومن أي باب دخلت إلى شخصيته عند الكتابة عنه، فلن يجد التناقض إلى كلامك سبيلاً، فتحدث عنه كما شئت وكن على ثقة بأن روافد صفاته الجميلة ستصب كلها في خانة الإنسان الذي يمتلك عمق البساطة، أو بساطة العمق، كان عميقاً في نظرته للحياة إلى درجة جعلته ينظر إليها على أنها لا شيء، مهما طالت فستنتهي، لذا أفرغ قلبه من الحديث عن الآخرين والانشغال بالناس، واستأنس بكتبه وشعره وبحثه عن الحكمة في داخل نفسه قبل أن يبحث عنها في تجارب الآخرين وكتاباتهم.
عند انطلاق "الجريدة" عُهد إليه، لما عرف عنه وما كان لديه من التبحر في اللغة ورسوخ قدمه في شتى علومها، المساهمة باختيار أعضاء قسم التصحيح، فكان هذا التعمق هو الميزان الذي تم به اختيار زملائه من أعضاء القسم، فأسس قسما ناجحا... وعندما قررت "الجريدة" ضم قسمي التصحيح والدسك، تشرفت وقتئذ بأن أتولى رئاسة هذا القسم المشترك، وتم اختيار "أبويامن" نائبا لرئيس القسم.
كان أخونا الراحل شاعرا نادرا وباحثا متمكنا وقارئا نهما، ينثال الشعر على فمه انثيالا عجيبا، وما أكثر ما كان يستحضر أبياتا ويرتجل أخرى في مناسبات عديدة جمعتنا معا! أما عن كلماته وتعليقاته فكان إذا أورد تعليقا عفوَ الخاطر تعجبتَ من أي معين للعبقرية يأتيك به، إذ يأتيك على عجل بتعليق يبدو كأنه قد فكر فيه أياما وأسابيع!
سأفتقدك يا أخي وزميلي وصديقي، وسأفتقد عذوبتك وحديثك الأخاذ وحضورك الجميل، ولا أدري كيف سأدخل "الجريدة" وأنظر إلى مكتبك فارغا يبكي رحيلك المر... لكنها الحياة وقانونها الصارم الذي لا يستثني أحدا... فإن القلب ليحزن وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا "إنا لله وإنا إليه راجعون".
ياسر السعدي
قفا نبكِ!
هو سوري بسيط من منطقة "النبك" ذات الطبيعة الأخاذة، والتي كان يحدثني عنها حديث العاشق، مستشهداً بنماذج من لهجتها، فلا أكاد أفهم منها شيئاً، لذا كنت كثيرا ما أداعبه ببيت امرئ القيس في مطلع لاميته "قفا نبكِ" وأضيف إليها عبارة "يا أهلَ النبكِ"، فيضحك ضحكته مقهقهة سنفتقدها كثيراً.
وها أنا يا سيدي مثلما كنت أقولها لك مداعباً، أعيدها عليك باكياً مفطورَ القلب موجوع النفس، أقولها لك مجدداً دون أن أدري هل ستتلقاها؟ وإذا تلقيتها هل ستضحك عليها في عالمك الجديد كما كنت تضحك عليها في دنيانا الفانية؟!.
يشهد الله أننا لم نرَ في فقيد "الجريدة" أستاذنا خالد الصدقة، إلا إنساناً نقي السريرة، صافي النفس، غزير العلم، لم يكن الغرور يتسرب إلى أسوار نفسه المنيعة، رغم ما كان يتمتع به من مواهب عديدة، فكنت تراه دائماً قريباً من المهمشين والبسطاء، وكأنه كان يقرأ جيداً حقيقة الدنيا وحقارة شأنها.
كان شاعراً يتذوق معنى الحب والحكمة والفلسفة ، وذات يوم في إحدى سهراتنا وأثناء انتظار تحويل الصفحة الأولى من "الجريدة" إلى المطبعة، سألته: "ما أقرب قصيدة إلى نفسك، فقال: قصيدة نظمتها منذ سنوات، أثرت فيها تساؤلات بلا إجابة، وشرع يقول من ذاكرته:
أنا رحلةُ الأحزانِ تبدأُ من دمي
وتؤوبُ إنْ سمعتْ حنينَ ندائي
يا هارباً كي لا أراكَ أيا أنا
باللهِ أينَ تكونُ ما أنبائي؟
قد فاتني عُمْري وموتي مَن أنا
أنا غائبٌ مَنْ حاضرٌ بردائي؟!
رحمك الله يا أستاذنا، وندعو الله تعالى أن تكون رحلة أحزانك قد انتهت، وأن تصحو على نعيم مقيم لا تشقى بعده أبداً، وأن تكون قد عرفت أنباءك السعيدة، إن شاء الله، في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
محمد عمار
خالد في قلوبنا
لا تستطيع الكلمات أن تعرب عما يجول في خاطري، فالقلوب تنفطر حزناً والعيون تذرف دمعاً عليك يا أبا يامن، ولا يستوعب العقل ولا يصدق أني لن ألقاك بعد اليوم.
وستظل يا أبا يامن محفوراً وخالداً في قلوبنا، لا ننساك أبداً بما غرسته فينا من محبة وصدق وإخلاص وإخوة، فأنت: شمس قد أشرقت، ونور يضئ ولا يغيب، دمث في أخلاقك، بالجود والكرم كنت تعرف. وهذا كله اقوله في هذا الرجل الخالد، يا أبا يامن، كنت تعرف بلقبك الجميل الصادق، علَم وعالم متفرد، متواضع، لا فرق عندك بين الكبير منصباً والضعيف، ذو ثقافة وبحر في العلوم، مترفع عن الصغائر.
الشوادفي عبد الرحمن
رحلت بجسدك وبقيت روحك بيننا
رحمك الله يا أبا يامن، فقد كنتَ نعم الأخ الكبير لنا. كنتَ دائماً توجهني بنقدك البنَّاء، ولم أسمع أو أرَ منك إلا كل خير طوال فترة السنوات التي عملت فيها إلى جوارك... تُقابلُنا ببشاشة وجه، ودائم السؤال عنَّا. حتى ملاحظاتك لي أثناء العمل كنت توجهني بكل تقدير واحترام جم. لقد رحلت في صمت ودون وداع، ولم يتسنَّ لنا التواصل معك خلال الأيام القليلة التي أصبت فيها بهذا الفيروس. سيعز علينا فراقك يا أبا يامن، لكن عزاءنا هو سيرتك العطرة، وروحك الجميلة التي ستبقى في المكان. رحمك الله أستاذنا خالد جميل الصدقة رحمة واسعة، وألهمنا الصبر على فراقك... ولأسرتك خالص العزاء وصادق المواساة.
أسامة خليفة
إلى جنان الخلد يا أبا يامن!
نعم يا صاحبي، هكذا ودون مقدمات صرت في العالم الآخر، رحيلك يا صاحبي أدمى القلوب والعقول، لقد خيم الصمت على كل محبيك، بل على كل من عرفك، الكلمات تتلعثم والحروف تتطاير والتعابير تختفي أمام هذا الحدث الجلل.
فلم يخطر ببالي يوماً أن أنعاك يا (أبا يامن)، وأنت القوي والضعيف، والحازم واللين، والضحوك والعبوس معاً، تجمع بين المتناقضات كما هي أشعارك وخواطرك.
ستبكيك عيون وقلوب الأحبة والأصدقاء، وستبكيك مجالس الأدب، ستبكيك ذكرياتنا الجميلة، ستبكيك ردهات الجريدة وحواسيبها، وستنعاك مانشيتاتها، ستبكيك صفحات الثقافة والأدب، حتى دواوين الشعر ستبكيك.
رحلت يا صاحبي بسرعة البرق، فهكذا هو هادم اللذات لا يُنظر أحداً ولا يستثني أحداً.
لقد كان لك من اسمك نصيب (خالد الصدقة) إذ ستخلدك كتب الأدب، وستكون كلماتك صدقة جارية، بإذن الله، إلى يوم الدين.
صفحات "فيسبوك" مهما اتسعت لا تسع مشاعر الفقد، التي تركتها في قلوبنا جميعاً وقلوب أهلك وذويك وأصدقاء العمل، فكلنا في هذه الليلة نرفع أكف الضراعة أن يتغمدك الله برحمته، ونسأله أن يكتبك من الشهداء، لا سيما أن الموت بهذا الفيروس والداء كمن مات بالطاعون، فلا حول ولا قوة إلا بالله، و"إنا لله وإنا إليه راجعون"، فهو أرحم الراحمين.
حسن غزاوي
أبو يامن... الإنسان
"كُلُّ امرئٍ مُصَبَّحٌ في أَهْلِه والمَوْتُ أدْنى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ" هذا القول هو أول ما طرأ على ذهني، وترددت أصداؤه في مسامعي، عندما تلقيت خبر وفاة الأخ والوالد والمعلم والأستاذ خالد جميل الصدقة (أبو يامن)، أفسح الله له في الجنات، وأعلى له الدرجات، وأسكنه أعالي الجنان.
حين يفاجئنا هذا المصاب الجلل فيمن نحب نفقد القدرة على التعبير عما يختلج في صدورنا من الحزن والأسى، وتعجز أقلامنا أن تَخُطَّ شيئاً، ولو قليلاً، مما تُكنّه وتنطوي عليه نفوسنا من حسرة وألم.
كان الراحل طيب القلب نقي السريرة، لا يحقد ولا يحمل على أحد، بل كان محباً للآخرين، مهما صغرت سنهم أم كبرت، يقدرهم ويحترمهم، ولا يراهم إلا أصدقاء وإخوة أعزاء.
كان شاعراً أديباً مرهف الحس إنساناً، لا يرى الناس على اختلاف أعراقهم وتمايز ثقافاتهم إلا شركاء في همّ الحياة ولأوائها، فهو القائل: "جبلّة البشر متشابهة وإن تعددت المظاهر وتباينت العادات وتمايزت الثقافات، فالذين يخوضون تجارب متماثلة مكابدين الحب أو الخيانة أو الفقر أو غير ذلك تصطبغ مشاعرهم غالباً بألوان متقاربة، ويعبّرون عمّا يقاسونه بكلمات متشابهة... فالإنسان هو الإنسان".
كان عزيز النفس أبيّاً يرفض الضيم ويأبى المهانة، مثقفاً واعياً عميق الفكر ثاقب الرؤية، غيوراً على دينه ولغته ووطنه وأمته، مؤمناً بوحدة أمته العربية والإسلامية، متألماً لما يصيبها من مآسٍ ونكبات، متفائلاً بنُصْرتها واثقاً بقدرتها على العودة إلى سابق عهدها من العزة والمنعة والريادة.
العم أبو يامن .... إن كنت فارقتنا بجسدك فلن تغيب شمسك عن سماء عقولنا وخلجات قلوبنا حتى تغرب شموس أعمارنا، ونحظى هناك بلقياك عند حوض النبي العدنان، هناك حيث زمرة النبي المرسل رحمة للأنام، هناك حيث ظل عرش الرحمن، هناك حيث الحياة الخالية من الكدر والمعاناة، هناك حيث السعادة الحقيقية الأبدية.
العم أبو يامن ... إلى الملتقى في دار النعيم بجنة الخلد حيث الحبيب المصطفى والصحب الكرام.
محمد إبراهيم
خالد الذكر جميل المناقب
وسط دعوات لا تنقطع، بأن يزيح الله عنَّا وباء "كورونا"، عاجلاً غير آجل، وأن يسلِّم العباد والبلاد منه، فإنه يأبى أن يتلاشى دون أن يؤلمنا بإصابة عزيز، أو يفجعنا بفقدان حبيب.
ومنذ بداية هذه الأزمة الصحيَّة التي حلَّت بالعالم، ساءنا سماع أخبار عن إصابة أحبَّة بهذا الفيروس، ومنهم الزميل العزير خالد جميل الصدقة. كان وقع الخبر مؤلماً. حاولت الاتصال به كثيراً، للاطمئنان عليه، لكن دون جدوى، حيث يبدو أن الأعراض كانت شديدة.
وما هي إلا أيام قليلة حتى جاءنا خبر وفاته، فشعرتُ برعشة هزَّت أركاني، فلم أكن أعلم أن هذا الفيروس يحوم حولنا، ليخطف منا أخاً طيباً وزميلاً عزيزاً، ما رأينا منه إلا كل خير.
صَحِبته في العمل بـ"الجريدة" لسنوات، وجدته جاداً في عمله، حاضر الذهن، مزوحاً في تعليقاته، غزير المعلومات، مرجعاً حين سؤاله عن معلومة ما، أو قاعدة لغوية. وكان دمث الخلق، يسبق نداء كل زميل بكلمة أستاذ أو يا أبا فلان. لقد استفدتُ كثيراً من ملاحظاته التي كان يدوِّنها على صفحات الجريدة في مرحلة "البروفات" التي تسبق الطباعة.
قد لا يتسع المقام للحديث عن مناقب أستاذنا الراحل، ومواقفه، فقد كان لا يتأخر عن السؤال حين نمرُّ بعارض صحي، ويكون من أول المواسين حين نتعرَّض لمكروه في عزيز علينا.
أذكر جيداً حديثاً لنا في بداية هذه الأزمة، وكان محوره هذا الفيروس، فتلا قوله تعالى: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".
لقد حرمنا هذا الفيروس من زيارته بالمستشفى، وتشييعه إلى مثواه الأخير.
رحمات الله عليك أستاذنا الخلوق. اللهم اغفر له، وأسكنه فسيح جناتك، وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان.
خالد حامد
رحل الطيب.. الصدقة
كالنسمة عبر، وكالهواء البارد مر، فارقَنا بلا وداع، ورضِينا بلا اعتراض، ومضيْنا بأحزانٍ ثقالٍ لا نلوي إلا على ذكريات حسانٍ، جمعتنا بأخٍ صادقٍ، وزميلٍ مخلصٍ، ومعلمٍ ماهرٍ، "خالد" الذكرى، طيب الخصال، "جميل" الفعال.
زاملته في "الجريدة" الغراّء، خلال فترة تأسيسها، فوجدته يتحدث بلسان الضمير، يخلص في النصح، يوضح الخطأ، يغفر الزلل، بأريحيةٍ تامةٍ، وبمهارةٍ عاليةٍ بوّأته مقعد المرجعية عن جدارة واستحقاق.
ترصدُ في أعماله كاتباً رصيناً رشيق القلم، وشاعراً مطبوعاً ينساب القصيد من بين أضلعه، يقرأ الأحداث شعراً، فيعبر به عن المواقف مهما تنوعت؛ فمن سجال لغوي، إلى ممازحة الزملاء، والأحداث التي يمر بها العالم، كفيروس كورونا اللعين، الذي أبدع عنه قصيدة تتناول انعكاس آثاره على المعاملات الاجتماعية.
أذكر مرة رفض فيها وصفي الضربة بـ"القاسمة" بدلاً من "القاصمة"، فأنشأ قصيدة عبقرية مبهجة تبين خطأ هذا الوصف، ما جعلني أرد عليه بأبيات لا تقارِعُ ما أبدعه هو، توضّح أن الكلمتين تصلحان لهذا الوصف، بحسب المعنى المراد، وتقبّل الأمر بصدر رحب ووجه ضحوك.
رأيت الجميل خالد الصدقة يكتب "معلّقة ديكية" تعارض معلقة امرئ القيس، يمازح فيها الزميل حسن غزاوي (بوعلي) ويستحثه ليولم لنا، وهو ما استجاب له بـ"منسف حوراني"، اجتمعت عليه كوكبة من أبناء "الجريدة" في جو أسري قل نظيره.
يقول أبو يامن في مطلع "معلقته" الديكية:
قفا نبك من ذكرى دجاجٍ مفلفلِ* بمبنى "الجريدةِ" في أسامة من علِ
فبطةَ فالأسماكَ لم يبقَ رسمُها* لِما طحنَتْها من ضروسٍ كمعولِ
وقوفاً بها صحبي عليّ صحونَهم* يقولون ما أشهى الحمامَ إذا قُلي
ترى كل صنف من صنوف طعامها* حلالا وأفتى لي بذاك "أبوعلي"
رحمك الله أبا يامن وبلّغك الفردوس الأعلى وألهم أهلك السلوان والصبر.
محمد أبوبكر أبوهنتشتوفي نائب رئيس قسم الدسك الأستاذ الزميل خالد جميل الصدقة، في مستشفى مبارك الكبير، يوم الأحد الماضي، تاركاً إرثاً أدبياً زاخراً وسيرة عطرة تفوح نسائمها في سماء محبيه.