للفنِّ المُوسيقي مَقاماتٌ، تتناسبُ مع الأمْزِجَةِ النفْسية، والأحْوال الرُّوحية؛ قبْضا وبسْطا، فرَحا وترَحا، أمَلا وألَمًا، طرَبا وحزَنا، لكننا -نحْن العرب- يغلب على موسيقانا الشجَنُ، والحزَنُ، أداءً، وتلقِّيا، فالأصواتُ، والألحانُ، والأنغامُ، الصادرةُ من الذاتِ العرَبيةِ عُمُومًا، تنْبعثُ- من "جُبَّ" الرُّوحِ العميق- ذاتَ حُمولةٍ كبيرةٍ من الألَمِ، فتأتِي كما لوْ كانتْ عَويلا، ونَحيبا، وتستقبلُها الذائقةُ الفنيةُ لدَى المُتَلَقِّينَ منّا بما يُطابقُ تلك الرسالة الفنية، من تأوُّهاتٍ، وصُراخاتٍ، ودموع، ونَشيجٍ.... وتَشْهَدُ لذلك عنْدنا-نحْنُ الموريتانيين- لغةُ التعْبير عن رَدَّاتِ الفِعْلِ على إجادةِ المُغّنِّى، في "رَدَّاتِه" الغِنَائِية، والموسيقة، و"طَرَبِه" المَزْعُوم، في نظرِنا، حيث نُمْطِرُه بأنينٍ مَكْتوم، وآهاتٍ.. أو بصرَخاتِ نَادَّةٍ بالألَمِ الدَّفِينِ، والوَجَعِ الكَظِيمِ، بحيْث تغْلبُ (الهَحَّاتُ: هَحْ.. هَحْ...)- التي يُسَمِّيها الشاعرُ العربيُّ القديمُ: ذو الرمّة (غيْلان ميّة) بـ "الوَحَاوِحِ)، الدالةُ على الشكْوَى والتوجُّعُ- صوْتَ "الآحَاتِ: آحْ.. آحْ..."، الدالةِ على الطرَبِ والتَّمَتُّع..
وحتَّى لوْ حاولْنا أنْ نُشَوِّشَ على دلالةِ الألَمِ الضَّاجَّةِ مِلْءَ هذه التعابير، ونَخُونُ في ترْجَمِتِها، هاتفينَ-بيْنَ الفيْنَةِ والأخْرى- بأنَّ هذا الغِنَاء/ البُكاء "زَيْنْ.. زَيْنْ"، وحَتَّى لو أقْسَمْنا على ذلك جَهْدَ أيْمانِنا- كما نفعلُ دائما-فإنَّ لُغَةَ الجَسَدِ-غالبا- تَخْذلُ التعْبيرَ عن الطرَبِ أداءً وتلقِّيا، حيث يتبادلُ كلٌّ منْ جِسْمِ المُغَنِّي/ المُطْرِبِ= المُرْسِلِ، وجِسْمِ المُتَمَتِّع/ المُتَوَجِّع= المُرْسَلِ إلَيْه-مَوْجَاتٍ منَ التشنُّجِ العَصَبِيِّ، عبْرَ تفاعُلُهما "الخَلَّاق"؛ فكِلاهُما يتمَعَّرُ وَجْهْه مُتَقَبِّضًا، ويتلَوَّنُ غيْرَ مُنْشَرِحٍ، ويَتَلَوَّى جَسَدُهُ مُوحِيا بالتوَجُّعِ أكْثَر من التَّمَتُّع، وهنا ترَى بعْضَ الأغَاني العربية يقعُ مَنْ يُؤدُّونَها فِيما يُشْبِهُ انفصامَ الشخْصية، حيث يُحاوِلُونَ إقْحَامَ الابْتسامِ علَى جَوِّ أغْنيةٍ حزينةِ الكلِمات، شجِية اللحْن، وهذا لا يَقِلُّ – نَشَازًا- عن إقْحَامِ تَجَهُّمِ الوجْه، وشَجَنِ الغِنَاءِ، على أغْنِيةَ طرَبيةِ الكلِمَات واللحْن... وحتَّى الرقْصُ.. الذي قلتُ -ذاتَ سياقٍ آخَر- إنَّ الجَسَدَ لا يَبْتَدِعُهُ لغَةً تعْبيرًا إلا "حِينَ يُدَاهِمُ إحْسَاسَ الرَّاقِصِ منَ الانْفِعَالِ بالنَّغَمِ مَا لا تَحْتَمِلُهُ أصْواتُ جِهَازِه اللُّغَوي، فتنْطِقُ كلُّ ذَرَّةٍ منْ كِيانِه بلُغَةِ الجَسَدِ الأفْصَحِ في هذا المَقام"- حَتَّى هذا الرقْصُ يبْدو لديْنا أقْرَبَ إلى "رقْصَةِ الذبيح" الأليمة، منْه إلى التعْبيرِ عن بُلوغ حالةِ "النيرفانا" الطَّرَبِية المُشْرِقة البَاذِخَةِ البَهِيجَةِ السَّعِيدَة...
بعد هذا التشْخِيص- غيْر الدقيق بما يكْفِي- يبْقي سُؤالُ التعْليلِ.. يَطْرَحُ نفْسَه؛ باعْتباره ضرورةً منْهِجِيةً.. لكنني لا أمْلِكُ السِّرَّ الكفيلَ بتفْسيرِ هذا المَبْحَثِ الفنِّي النَّفْسِي المُعَقَّدِ.. غيْر أنِّي أستطيعُ أنْ أقولَ بأنَّ الإنْسان عموما رافقَهُ شُعُورُ الغُرْبَةِ والفقْدِ الذي ورِثَهُ من أبوَيْه: آدم وحواء؛ منْذ أنْ هبَطا منْ نَعيمِ الجَنَّةِ، إلى مُكابَدَةِ العيْش على الأرْضِ، ومُعانَاة قلَق الوُجودِ، والمَصير.. ولعلَّ نَصيبَ العرَب، من مِيرَاث ِالفقْد هذا كان أكْبر من غيْرهم، فهُم -من قديمٍ- يشعُرون- تاريخيا- بفقْد الزمَن الجميل.. زمَن المَجْد والتفوُّق الحضاري، وهمْ -جغرافيا- يشعرونَ بضياعِ "الفرْدَوْسِ المَفْقُودِ"، وتسكنهم-حديثا- نكْبَةُ "النَّكْبَة"، أما اليوْم.. فكلُّ أوْطانِهم أطْلسٌ كبيرٌ لـ "خَرائطِ الوَجَعِ".
على كلِّ حالٍ قدْ يَكونُ هذا الانْفصِامُ في الإحْساس ِوالتعْبير حالةً طبيعيةً، حينَ يَتَنَازَعُك، الجَمَالُ العَجِيبُ، والخَطَرُ الرَّهِيبُ، فِي الوَقْتِ نفْسِه، فيتصارَعُ فِي كيْنُونَتِك الألَقُ والقَلَقُ، والطَرَبُ والرَّهَبُ، فيَلْتَبِسُ التَّعْبِيرُ بالتباس الإحْسَاسِ بيْنَ ما سمَّيْتُه نَشِيجَ الغَنَاءِ.. وشَدْوَ البُكَاءِ؛ حَسْبَما عبّرْتُ عنْه ذاتَ "إسْرَاءٍ ومِعْرَاجٍ"، في قِمَمِ "جِبَال الأطْلس الكبير" بالمَغْرَب؛ حَيْثُ قُلْتُ في خِتَامِ قَصيدةٍ بهذَا العنْوَان:
هُنالك.. على قِمَمِ الأطلسِ الشُّمِّ..
يَحْتَدِمُ الجَذْبُ..
بيْنَ نوازع حُبِّ الجَمَالِ..
وُحُبِّ البَقَاءِ
فيَصْطَرِعُ الوَجْدُ.. والفَقْدُ ..
كالصَّحْو والمَحْوِ.. فِي عَالَمِ الشُّعَراءِ
وينْبَجسُ الشِّعْرُـ في لحْظةِ الجَذْبِ ـ مُلْتَبِسَ اللَّحْنِ..
بيْنَ نَشِيجِ الغَنَاءِ..
وشَدْوِ البُكَاءِ
ومهما يكن.. يظل موضوع "طربنا الأليم" مغريا بالبحث.. فهل من نابش هناك.