1/9/2022
الكاتب: وجدت نفسي وأنا أحط في صنعاء لأول مرة متقمصا شخصية الحارث بن همام راوي مقامات الحريري (غيتي إيميجز)
اعتاد الناس في بلاد شنقيط (موريتانيا) بناء رصيدهم اللغوي والأدبي في المدارس الأهلية المعروفة باسم "المحاظر" من خلال حفظ القرآن الكريم، ثم حفظ أحد النصوص الأدبية التأسيسية. ومن النصوص التي اعتادوا حفظها "المعلقات العشر" و"ديوان المتنبي" و"ديوان غيلان" و"مقامات الحريري". وكان من فضل الله علي أني حفظت القرآن الكريم في عمر الـ11 تقريبا، بحرص والدي -المختار وفاطمة- وهمتهما، وعمق إيمانهما، رحمهما الله تعالى.
ثم كان من حسن حظي أن والدي كان محبا لمقامات الحريري، محتفظا بنسخة منها في مكتبته الشخصية، بشرح الأديب الأندلسي أحمد بن عبد المؤمن الشريشي (557-619هـ/ 1181-1223م). وكان شرح المقامات للشريشي، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني، وإحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، ونظم الغزوات النبوية لأحمد البدوي الشنقيطي، من أحب كتب الوالد إليه، ومنه استكسبت محبة الكتب الأربعة في عمر مبكر.
وقد شجعني الوالد على قراءة مقامات الحريري وحفظها، فحفظت العديد منها وأنا فتى يافع فيما بين العاشرة والثانية عشرة من عمري تقريبا، ولا أزال أذكر متعة تلك الجلسات بين يديه، وأنا أقرأ إحدى المقامات، وهو يشرح لي معانيها، ويفك مغاليقها، وسط الضحكات من مغامرات أبي زيد السروجي، بطل المقامات الخيالي.
ومقامات الحريري من تأليف أحد عمالقة الأدب العراقيين، هو أبو محمد قاسم بن علي الحريري البصري (446-516 هـ/ 1054-1122م)، وهي من عجائب النصوص الأدبية العربية التي تكاد تجمع من الألفاظ العربية أجملها وأحسنها رونقا. ولعله من النادر أن نجد نصا -بعد القرآن الكريم والحديث النبوي- قد جمع من درر الألفاظ العربية مثلما جمعت مقامات الحريري. وتكفي في قيمة هذه المقامات شهادة شيخ البلاغيين، جار الله الزمخشري (467-538هـ/ 1075-1144م)، الذي يقول:
أقسم بالله وآيــــــاتــــه .. ومشعر الحج وميقاته
أن الحريري حري بأن .. نكتب بالتـبـر مقامـاتـه[1]
وقد تشبعت ذاكرتي الطفولية بالألفاظ العربية الصقيلة التي صاغ بها الحريري مقاماته، وهذا الكسب اللغوي هو ما كان والدي -رحمه الله- يدفعني إليه. وكان من طرائف الأقدار أن سافرت إلى اليمن لتدريس النحو العربي في جامعة الإيمان بصنعاء مطلع العام 1997، وكنت صحبة صديقي السياسي والمفكر الإسلامي الموريتاني المعروف محمد جميل منصور في الرحلة نفسها، وهو أيضا كان منتدبا للتدريس بالجامعة ذاتها. وحينما حطت الطائرة في مطار صنعاء سحرا كان أول ما تذكرته هو "المقامة الصنعانية"، وهي أولى مقامات الحريري. فبدأت أردد -وأنا خارج من المطار- عبارات الحريري التي صدر بها تلك المقامة: "لما اقتعدت غارب الاغتراب، وأنأتني المتربة عن الأتراب، طوحت بي طوائح الزمن، إلى صنعاء اليمن، فدخلتها خاوي الوفاض، بادي الإنفاض، لا أملك بلغة، ولا أجد في جرابي مضغة"[2].
لقد وجدت نفسي وأنا أحط في صنعاء لأول مرة متقمصا شخصية الحارث بن همام راوي المقامات، وأبي زيد السروجي بطلها، ولم تكن أوجه الشبه بيني وبينهما بالقليلة في تلك الليلة الصنعانية الباردة. فقد جمع بيننا يومذاك حب المغامرة، والولع بالأدب العربي، وضيق ذات اليد، فكنت حقا وصدقا "خاوي الوفاض، بادي الإنفاض".
على أن ذلك الإحساس بالاغتراب وخلو الوفاض سرعان ما تلاشى حين استقبلنا عند مدخل المطار الشيخ الحافظ محمد المختار الحسن، وهو من أبناء بلدنا الذين سبقونا بالالتحاق بجامعة الإيمان في صنعاء. ومكثت في صنعاء عامين، فوقعت في حبها، وعشقت عبق التاريخ في أسوارها القديمة، وصفاء فطرة أهلها، ورائحة البـن اليمني تعطر شوارعها العتيقة ممزوجة بأنداء الصباح. وكانت من ثمار ذلك قصيدة صنعاء التي كتبتها في واشنطن عام 1999 بعد رحيلي من اليمن بنحو عام.
ومن الذكريات الأدبية الجميلة التي ظلت عالقة بذهني من مقامي باليمن (1997-1998) زيارتي للأديب اليمني الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح يوم كان رئيس جامعة صنعاء، فقد اقتحمت عليه مكتبه دون معرفة سابقة أو موعد مرتب، بعد ما لاحظت أن بابه مفتوح لكل طارق. وأهديته بضع قطع شعرية لي، فرحب بي بكرم وتواضع يماني أصيل، ثم حدثني حديثا طريفا عن رحلة له إلى موريتانيا، خلاصتها أن الجامعة العربية بعثته في الستينيات على رأس وفد، ليقرر ما إن كان الموريتانيون عربا يستحقون أن تقبل عضوية دولتهم بجامعة الدول العربية، ضمن التحضير للرد على طلب موريتانيا الانضمام للجامعة العربية.
وقد اطلع الدكتور المقالح خلال رحلته تلك على جوانب من الحياة الثقافية في موريتانيا. قال: فلما اكتشفت نمط حياة الموريتانيين، وولعهم بالشعر العربي، وتمرسهم به، كتبت للأمين العام لجامعة الدول العربية تقريرا مفصلا ختمته بما معناه: "إذا كان يوجد عرب على ظهر الأرض اليوم فهم هؤلاء القوم"، وخرجت من مكتب الدكتور المقالح، مبتهجا بكرمه، ومزدهيا بهذه الشهادة الأدبية لأهل بلدي من رجل في مثل مكانته الثقافية والأدبية.
ومن ذكرياتي الأدبية في صنعاء أن الشيخ الشهيد أحمد ياسين (1937-2004) زارنا من فلسطين، ضمن جولة له في عدد من الدول العربية، ومنها اليمن، وقررت رئاسة جامعة الإيمان التي أدرس بها أن تنظم له حفل استقبال حاشد، فكتبت أبياتا في الترحيب به، لكن منظمي الحفل لم يسمحوا لي بقراءتها أمام الشيخ ياسين، لأنها لم تكن ضمن جدول الزيارة، فساءني ضياع تلك الفرصة الثمينة، ثم زالت تلك المشاعر السلبية من نفسي، واقتنعت بسداد قرارهم بعد أن ألقى شاعر يمني قصيدة طويلة جميلة في الحفل، لا تساوي أبياتي القليلة البسيطة شيئا مقارنة معها، فعرفت يومها جانبا من الحكمة اليمانية لم أكن أعرفه. وقد أثبت أبياتي في ديواني بعنوان "ياسين".
ولم أخرج من صنعاء خاوي الوفاض كما دخلتها، بل خرجت منها حاملا معي ديوان لعنيني أم بلقيس لشاعر اليمن عبد الله البردوني (1929-1999)، بعد أن سحرني البردوني بجمال شعره، ونحته اللغوي الذي يضاهي في دقته وحسن صنعته نحت أهل اليمن للصخر الصنعاني ذي الألوان الطبيعية الزاهية.
[1] عبد القادر البغدادي، خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1997)، 6/462.
[2] انظر: أحمد بن عبد المؤمن الشريشي، شرح مقامات الحريري (بيروت: دار الكتب العلمية، 2006)، 1/37.
- محمد مختار الشنقيطي
- أستاذ الشؤون الدولية بجامعة قطر
المصدر: الجزيرة نت