رائد النهضة وأميرُ الخط العربي.. يوسف ذنون.. ريشة الفنان وإشراقة الأديب

ثلاثاء, 07/07/2020 - 18:35

محمد الأمين السملالي

 

الحرف العربي اليوم ملتحف بالسواد، حزناً على رحيل واحد من أبرز أساطينه في عصرنا الحديث!

رحم الله أبا عصام، وأسكنه فسيح جناته!

كان لي الشرف أن كتبت عنه وعن عطائه وريادته قبل عامين:

رائد النهضة وأميرُ الخط العربي

يوسف ذنون.. ريشة الفنان وإشراقة الأديب

محمد الأمين السملالي

مقدمة:

من بلاد الرافدين، حيث كانت انطلاقة فنون الخط العربي، وحيث كان الوزير ابن مقلة مهندس الحرف المنسوب، وحيث ترك ابن البواب وياقوت المستعصمي تراثاً حافلاً من التجويد الخطي والعطاء الفني؛ تعود صحوة الخط العربي إلى عاصمة الرشيد، لينهض بها أعلامٌ برزوا في القرن العشرين، واستطاعوا أن يعودوا بالخط العربي في العراق إلى سابق عهده وأمجاده التاريخية، وإن من أبرز أولئك الأستاذ الفنان الموصلي يوسف ذنون.

يمتاز يوسف ذنون بوفرة الإنتاج وغزارته، وهو الذي استطاع أن يجمع بين الإبداع التطبيقي والعطاء النظري، في حالة نادرة بين الخطاطين، الذين غالباً ما يشغلهم الإبداع عن التنظير.

o السيرة والمسيرة:

ولد الخطاط يوسف ذنون عبد الله سنة 1931 بمدينة الموصل، وتدرج في سلك التعليم ليتخرج معلّماً للفنون الإسلامية سنة 1951، وقد كان اهتمامُه بالخط نابعاً من موهبة فطرية، وجّهته إلى الرسم وتقليد الخطوط الجميلة، ليجد نفسه تدفعه دفعاً إلى احتراف هذا الفن، فبدأ البحث عن المصادر التاريخية على قلّتها محاولاً تطوير أدواته، ولعل هذا ما يفسر لنا بروزه فيما بعد باحثاً ومؤرّخاً للخط العربي.

وقد كان خطاطُنا الكبير على موعد مع المنعطف الحاسم في مسيرته الإبداعية، حين زار عاصمة الخلافة العثمانية سنة 1957، ليوسع ثقافته الفنية عبر الاطلاع على التراث الإسلامي هناك، ويحصل على أدوات الخط التي يحتاجها، ويلتقي بشيخ الخطاطين العثمانيين حامد آيتاش الآمدي (1891 – 1981م)، الذي عرض عليه أعماله، واستفاد من توجيهاته، فاستطاع الحصول على الإجازة الخطية من هذا العَلَم البارز، وكان ذلك سنة 1967، كما منحه بعد ذلك بعامين شهادة أخرى بالتفوق، عرفاناً بالمستوى الإبداعي الذي وصل إليه.

وهكذا انطلق الخطاط يوسف ذنون، مسلّحاً بتلك الشهادات والتجارب، ليعمل على إحياء الخط العربي في العراق، من خلال ثلاثة مسارات متوازية: أحدها إبداعي، والثاني تعليمي، والثالث بحثيٌّ توثيقيٌّ. فقد أنجز الأستاذ الكثير من اللوحات الفنية التي تشهد لموهبته الإبداعية الراقية، وبنفس المستوى في جميع الخطوط العربية على اختلاف أنواعها، كما أنجز – اعتماداً على خلفيته التعليمية – العديد من الكراسات المنهجية لمختلف الخطوط، فضلاً عن بحوثه التربوية حول الطرق المثلى لتعليم الخط العربي لمختلف المراحل الدراسية، وفوق هذا وذاك فقد استطاع أن يثري المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات والأبحاث المحكّمة حول تاريخ الخط العربي وتطوُّره، مع تقديم اجتهادات تنم عن اطّلاع وإحاطة، إضافةً إلى تحقيقه العديدَ من نوادر التراث في مجال الخط العربي.

o الإنتاج الإبداعي:

لم يحِدْ يوسف ذنون عن سَنن كبار الخطاطين، فقد أنجز العديد من اللوحات الخطية، كما أنجز مصحفاً كاملاً بخط يمينه، ما يزال – مع الأسف – حبيس الأدراج، نظراً لما تعرضت له بلاد الرافدين من أحداث وأهوال. وفي مساجد العراق كان لصاحبنا العطاء المشهود، حيث أنجز الكتابات الخطية في ما يربو على 120 مسجداً.

وهو في لوحاته وفيٌّ لأسلوب الأصالة الكلاسيكية، التزاماً بالأبعاد والمقاسات المتفق عليها بين الخطاطين، منذ أن وُضعت في بغداد قواعدُ الخط المنسوب على يد الوزير ابن مقلة (272 – 328ه) مهندس الحرف العربي. ويتجلى ذلك في احترامه للكلمة والعبارة ولذوق المشاهد، فلا نجده جانحاً إلى التعقيد أو التكلف، بل يمكن التعرف إلى الحروف والكلمات بكل سهولة.

كما يتجلى لديه الهاجس التعليمي في لوحته المشهورة المستوحاة من شكل البردة المتداول لدى الخطاطين، والتي جمع فيها أغلب الخطوط العربية والأشكال الفنية: المحقَّق، السنبلي، الكوفي القديم، الطغراء، المغربي، الإجازة، جلي الديواني، الرقعة، الديواني، الثلث، التعليق، الكوفي المزهَّر، النسخ، الكوفي المضفور، الكوفي المربع. ونلحظ أن تاريخ اللوحة يعود إلى سنة 1971م، أي بعد نيله الإجازة بمدة يسيرة، مما يدل على التمكن المبكر في أنواع الخط العربي.

ومن الجدير بالذكر هنا التطرق إلى مشاركة خطاطنا عام 1989 في المعرض العالمي "سحَرَة الأرض" (Magiciens de la Terre) في العاصمة الفرنسية باريس، وهو المعرض الذي اشترك فيه مائةُ فنانٍ وفنانٌ، من جميع أنحاء العالم، ومُثلت فيه جميع الفنون: البدائية، والشعبية، والتشكيلية، والتلقائية. وقد تم اختيار أمير الخطاطين العرب ممثلاً للخط العربي بلوحة كبيرة من الثلث الجلي (بقياس 1 × 12 متراً)، خُطّت مباشرةً على هذه المساحة بقلم عرضه 5 سم، مع زخرفة عربية مُذهبة وملونة، وعرضت في جناح مستقل ومخصص لها، وهي تتضمن الآية 13 من سورة الحجرات: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

o العطاء التعليمي والتربوي:

لقد كان صاحبنا رجل تعليم وتربية في المقام الأول، قبل أن يكون خطاطاً مبرزاً، ولذلك فقد صب معارفه الفنية في عمله التربوي والتعليمي، فكان التكاملُ، وبه ظهرت أجيال جديدة من الخطاطين في الموصل وفي العراق عموماً، وقد بدأ يوسف ذنون تدريس الفنون والخط في معهد المعلمين بالموصل، وفي سبيل نجاح مهمته، قام بإنجاز العديد من الكراسات الخطيّة، إحداها في خط الرقعة، وأخرى في الخط الديواني، وثالثة في الخط الكوفي، إضافةً إلى كراسة لمبادئ الزخرفة العربية (التوريق)، وسلسلة الخط الجديدة تعلَّمْ بنفسك قواعد عامة للمبتدئين، هذا فضلاً عن دروس نظرية تطبيقية ضمنها في كتابه (دروس في التربية الفنية)، وكتابه الآخر (أصول تدريس الخط العربي والكتابة الاعتيادية) الذي جاء كخلاصة لتجاربه العملية في هذا المجال.

ولم يرد لهذا الفن أن يبقى حبيس الفصول التعليمية، فأخرجه إلى العموم؛ حيث أنجر مئات الدورات لجمهور المهتمين بالخط العربي.

وعلى سنة الخطاطين الكبار، فقد خرّج صاحبُنا مجموعة من الخطاطين من تلامذته من مختلف الدول العربية، صار لهم فيما بعد صيتُهم وشهرتهم في عصرنا الراهن، ومنهم: محفوظ ذنون، عبد القادر عاكول، علي المصلاوي، علي حامد الراوي، إياد الحسيني، طالب العزاوي، باسم ذنون، مروان حربي، عمار عبد الغني، جنة وفرح وفريال العمري، عبدالله الحساني، عبد الرقيب العودري، عبد الرحمن الجنيدي، الجيلاني الغربي، فرج إبراهيم، منتصر الحمدان، حميدي بلعيد، فوزية عدنان، حسين عيسى مناد بن حليمة، علي البداح، تحسين طه.

o الإنتاج العلمي والبحثي:

لم ينل صاحبنا لقب "فقيه الخط العربي" من فراغ أو مبالغة؛ فقد رَفد الأستاذ يوسف ذنون مكتبتنا العربية بدراسات معمقة ومؤلفات وافية في تاريخ الخط العربي وتطوُّره، وهو في كتاباته يكاد يُنسيك شخصيته الأولى كخطاطٍ محترفٍ، حيث تجد اللغة الراقية المتمكنة، والأسلوب الأدبي الرفيع، وكأنك أمام أديب متفرّغ للكتابة والبيان. ويكفي أن تلقي نظرة على بعض أبحاثه التي كان ينشرها في المجلات العلمية الرصينة، من قبيل: مجلة سومر، ومجلة المورد، ومجلة المجمع العلمي العراقي. وهي أبحاث تأصيلية عميقة، تميل إلى الاجتهاد وإعادة النظر في بعض المسلمات، على ضوء ما اطلع عليه الباحث من معطيات مستجدة، وكان من نتيجة ذلك أن استنبط آراء جديدة، من قبيل رأيه في الخط المعروف بالكوفي قديماً، حيث توصل إلى أن تسميته القديمة هي: (قلم الجليل الشامي)، وهو الذي كتبت به المصاحف الأولى، جاء ذلك في دراسته المنشورة في مجلة المورد (مجلد 15، ع:4) تحت عنوان: (قديم وجديد في أصل الخط العربي وتطوره عبر العصور). أما المؤلفات فسوف نتوقف عند أهمها بشيء من التعريف، من غير إطالة:

1. الكتابة وفن الخط العربي، النشأة والتطور:

يقول المؤلف في المقدمة، معرفاً بهذا الكتاب: "هذه تجارب وممارسات وبحوث عمرها نصف قرن من الزمان، ساحتها الخط العربي وما يحيط به بمنظـور جديد، وانطلاقة ذاتية تعلمـاً وبحثاً وتحركاً بمسـاع حثيثة، حملت عبق الأيام الخوالي، وتجارب الماضي المفعَم برحيق عباقرة القرون الماضية، وإطلالتهم الفنية الإيمانية، وذوب أفكارهم السامية الخلاقة في ظلال أيكة الجمال الوارفة، وتطلعات هدفها نفحات دوحة الجلال بنسـماتها العذبة المنعشـة للـروح، ونعمها التي لا تحصى، وضَوع عطر خيراتها التي تشع نوراً يجوب الآفاق، يسطع سناه ليحتوي مسيرة متنامية تجسدت في مجموعة أبحاث نقتطف منها بعض ما دار في فلك الكتابة العربية وفنها الأسمى (الخط العربي)، وهي تمثل النشأة الأولى، التي كانت منها الصورة التي حملت رسم القرآن العظيم بحرفـه المتكامـل مبنىً، والمطـور قاعـدة، والمهيأ تعبيراً، والمنطوق حفظاً."

2. زينة المعنى (الكتابة، الخط، الزخرفة):

يقول في مقدمة الكتاب: "هذه إضمامة تعالج بعض الجوانب في اللغة المنظورة التي يمثلها فن الخط العربي، فيها طرف من القديم، وفيها تعريج على الحديث، وتستعرض بتركيز شديد مسيرة الكتابة منذ ترعرعها في ثنايا الأزمان الغاربة إلى حدودها المعاصرة، والوقوف عندها بلمسات حانية لبعض جوانبها ببعض التفاصيل، يليها التعرض لحقبة مغربية تتمتع بالخصوصية التي تحتاج إلى إلقاء بعض الضوء على الجوانب المميزة فيها ورصد بعضها لعل الأجيال المقبلة في فن الخط العربي وفى غيره تستفيد منها وتحض على التواصل والعمل في هذا الميدان".

3. تعليم الخط العربي والكتابة تاريخاً و تطبيقاً:

يقول المؤلف في مقدمته للكتاب: "إن ضرورات العصـر وأدواته قد قضـت بالفصل بين طرق تعليم الكتابة والخط العربي، الكتابة باعتبارها مطلباً لغـوياً، له مواده وأدواته الخاصة؛ من الأقلام بأنواعها، والأوراق، وغير ذلك، (...) أما الخط العربي، فهـو فن قائـم بذاته، يقـوم على مواد وأدوات وقواعد معروفة، تتحكم في أنماطه، (...) تم عرضها في إطار مراحلها المختلفة، ومسيرتها التاريخية المتعاقبة بتركيز يعين في البحوث المطروحة في هذه المجموعة على الإحاطة بها حتى الوقت الحاضر، ممهدة لنقل تجربة الباحث في تقديم طرق تعليم مبتكرة تعمل على تسهيل تعلم فن الخط العربي بأيسر الطرق وأدقها، وإنجاز سريع يتجاوب مع إيقاع العصر السريع. أعقب هذه البحوث دروس تعليمية عملية في الكتابة، وخط الرقعة، والخط الديواني، والخط الكوفي، وتمثل هذه الطرق المبتكرة تجسيداً لتجربة الباحث تُرسي الأساس الذي يمكن أن تقوم عليه الكتابات عموماً".

4. شرح قصيدة ابن البواب في علم صناعة الكتاب (دراسة وتحقيق):

وهو تحقيق لقصيدة ابن البواب المشهورة في صناعة الخط مع شرحها لابن البصيص. ويقول المحقق في مقدمته: "حينما حل القرن العشرون، بدأ اهتمام نسبي بنشر بعض مخطوطات الخط العربي، إلا أنه تصاعد بشكل كبير في نصفه الثاني، فنشطت حركة البحث عنها، والعمل على تحقيقها ونشرها، وقد تولى القسم الأكبر منها المحقق البارع الأسـتاذ هلال ناجي ـ الذي أهدي له هذا الشـرح ـ، ومع ذلك، فإن قسماً آخر منها لا زال يقبع في غياهب المجهول مما تحتويه مكتبات المخطوطات في الشرق والغرب العامة والخاصة، ومنها: هذا الشرح الذي كان يظن أنه مفقود ـ وقد أشار إلى ذلك الأستاذ هلال ناجي ـ، ولـم يبق منه إلا جزء يسير احتـواه "شـرح المنـظومة المستطابة في علم الكتابة" لمؤلف مجهول حاول فيه الجمع بين شرح ابن الوحيد (711ﻫ) وشرح ابن البصيص (هذا)، وقد شمله التحقيق".

ختام:

وفي ختام هذه الجولة مع عملاق الخط العربي في بلاد الرافدين، نصل إلى بعض النتائج والتوصيات الهامة، لعلها تجد طريقها للمهتمين:

- لقد تبيّن من خلال المعطيات السابقة، ما كان لهذا العَلَم من دور عظيم في نهضة الخط العربي في العراق، ومن بعدها بقية أقطار الوطن العربي، وذلك بعد قرون من السبات العميق، باستثناء مصر التي كانت قد سبقت إلى النهضة الخطية بعد سقوط الخلافة العثمانية.

- كانت لكراسات الأستاذ يوسف ذنون التعليمية، أكبر الأثر والفائدة، على المهتمين والدارسين للخط العربي، وما تزال متداولةً ومطلوبة بشدة، ويستفيد منها طلاب الخط في مختلف أنحاء العالم.

- من المؤسف أن الإنتاج الإبداعي لهذا الفنان من اللوحات الخطية، لا يكاد يوجد منشوراً على شبكة الإنترنت، رغم أهميته الكبيرة، وتمثيله لمدرسة الأصالة والنهضة الحديثة، وكذا المصحف الذي أفرغ فيه صاحبنا خبرته المتراكمة، ولم يرَ النور إلى حد الساعة.

- كم سيكون مفيداً للباحثين، ووفاءً لهذه القامة العربية السامقة، أن تتبنى إحدى الجهات الثقافية مشروع طباعة الأعمال الكاملة للأستاذ يوسف ذنون، وهي كما أشرنا سابقاً أعمالٌ أصيلة تمتاز بالعمق والفرادة والتميز، سواء منها الأعمال البحثية أو التربوية التعليمية.