سيدي أحمد ولد الأمير
باحث موريتاني مقيم بقطر
عندما تطلع على البيانات الاستخبارية (fiches de renseignement) أو قصاصات الجرائد أو التقارير التي كتبها الفرنسيون عن منطقة العصابة تجد نفسك أمام كم هائل من المعلومات التي، وإن كان كتبها المستعمر لغايات السيطرة وأهداف الهيمنة، تبقى مفيدة وفيها من التوثيق والأخبار ما لا يوجد في غيرها.
الجرائد الفرنسية: إخضاع العصابة تأمين لمنطقة الساحل
كان لمنطقة العصابة حضور قوي وفاعل ومؤطِّر في الأحداث المتلاحقة التي تلت دخول الاستعمار الفرنسي إلى موريتانيا بداية القرن العشرين.
الصورة: جريدة لوتان الفرنسية (Le Temps) العدد 16625 الصادر بتاريخ 28 ديسمبر 1906
وجد الفرنسيون في قرية كيفة مكانا استراتيجيا مناسبا للسيطرة على العصابة وعلى ما جاورها من مناطق موريتانية وذلك لحماية جنودهم من ضربات المقاومة؛ فأسسوا بالقرب من تلك القرية الوادعة مكانا سيصبح مدينة كيفه اليوم. تابعت صحيفة لوتان الفرنسية (Le Temps) في عددها الصادر يوم 28 ديسمبر 1906 هذا الحدث المتعلق بتمركز الفرنسيين في منطقة العصابة وترسيخ أقدامهم على أرضها واختيارهم لكيفه مقرا ومركزا؛ حيث كان أول ضابط فرنسي يحل بذلك المكان ويضع الحجر الأساس للوجود العسكري الفرنسي هو الرائد أرنو (CommendantArnoud) الذي وضع أساس أول حامية عسكرية فرنسية بالمدينة الجديدة.
لكن ما قام به الرائد أرنو لم يرق لساكنة العصابة الذي هبوا لطرد الغزاة المستعمرين، وقد غطت الصحافة الفرنسية هذه الهبة القوية ومن ذلك ما جاء في صحفة لا كروا (La Croix) الصادرة بتاريخ 20 أكتوبر 1907 حين تحدثت عن قيام ثورة عارمة ضد الوجود الفرنسي بالعصابة مما دعا الفرنسيين لاستنهاض كتيبة من الرماة السنغاليين يقودها الضابط الفرنسي "فاجو" فانطلقت من خاي بمالي نحو كيفه لإخماد الثورة. لكن الجريدة لم تجد بعد تفاصيل ما وقع.
الصورة: جريدة جورنال دي ديبا الفرنسية (Journal des Debats)العدد 99 الصادر بتاريخ 14 أبريل 1909.
ويبدو أن الفرنسيين لم يثبت لهم قدم بالعصابة وظل وجودهم بها مهزوزا ومحاطا بكثير من التخوش والترقب، فالمطالع للصحف الفرنسية في تلك الفترة لا يعدم خبرا هنا أو تقريرا هناك يتحدث عن المجابهة مع الفرنسيين وبين ساكنة العصابة، تلك المجابهة التي باتت حاضرة بقوة في الإعلام الفرنسي: ذكرت صحيفة لا لانترن (La Lanterne) الصادرة بتاريخ 8 نوفمبر 1908أن الحاكم الفرنسي في الحوض كلوزيل (Clozel) لاحظ بعد جولة قادته لمناطق عديد في شرق موريتانيا وفي مالي أن هنالك أمنا مستتبا في جميع الأرجاء ما عدا منطقة العصابة حيث يوجد غليان ضد فرنسا. وتزعم الصحيفة أن الحامية الفرنسية الموجودة بكيفة كفيلة بالتصدي لكل الاحتمالات.
الصورة: جريدة لوماتان الفرنسية (Le Matin) العدد 9949 الصادر بتاريخ 25 مايو 1911
ولم تكن سنة 1909 مختلفة عن سابقاتها فقد ظلت العصابة قلعة حصينة ضد الأطماع الفرنسية وذلك ما تؤكده الصحافة الفرنسية المتابعة لكل ما يحدث في موريتانيا عموما وما يقع في العصابة بشكل خاص: فعن أخبار المقاومة التي كانت تخطط وتنفيذ عملياتها انطلاقا من العصابة ومن منطقة كيفه بالذات نشرت جريدة "جورنال دي ديبا"(Journal des debats) في عددها 99 بتاريخ 14 أبريل 1909، أن الوالي الفرنسي العام بسينلوي هاتف باريس بخبر مفاده أن: الرائد موجو (Mougeot) حاكم مدينة كيفه الذي كان يقود كتيبة من الجمالة قد دخل فجأة يوم 11 مارس 1909 مخيما من قبيلة لغلال حيث توجد مجموعة من رجال المقاومة الوطنية فوقعت مناوشات استشهد خلالها أربعون من الحي المذكور، ولم يمت أحد من جانب الفرنسيين حسب الجريدة. وقد وجد الرائد عند بعض أفراد الحي رسالة من الشيخ ماء العينين تحث قبيلة لغلال على الجهاد.
وفي 20 من نفس الشهر أرغم الرائد مانجو حيا من أحياء لغلال يناهز ألف خيمة على النزول بحيه قرب مكاتب الإدارة وجعلهم تحت رقابة الجمالة كما يفهم مما ذكرت الجريدة.
كما توجد بكيفه –حسب التقرير- مجموعة مسلحة من المقاومين تزيد على 150 مسلحا لم يستسلموا بعد وأن الفرنسيين ينوون إخضاعهم وربما تم ذلك بدون خسائر تذكر كما تذكر الجريدة.
ويرى الوالي العام أن إخضاع سكان العصابة سيكون له ما بعده بالنسبة لتهدئة وإخضاع موريتانيا بل ومنطقة الساحل عموما.
وخلال سنوات الاستعمار الأولى لم يهدأ للسكان بال فقد ظلت منطقة العصابة عصية على الفرنسيين وقد جعلوا على عاتق الفرقة العسكرية بكيفه حماية ما بين منطقة خاي بمالي وما بين غيرها من مناطق موريتانيا. فحسب جريدة لوماتان (Le Matin) الفرنسية في عددها 9949 الصادر بتاريخ 25 مايو 1911 فإن فرقة الجمالة الفرنسيين بمنطقة العصابة والتي تتكون من بعض الرماة السنغاليين ويقودهم الضابط الفرنسي دماسيز (Demassez) كانت في مهمة استطلاعية بمنطقة أفلة وتهدف إلى معرفة أماكن الانتجاع وتحديد الأودية الخصبة والقيعان المترعة ماء، فما فاجأهم إلا كتائب المقاومة وخصوصا مسلحين من مجموعة أهل احجور الإيديشلاوية متجهين نحو الزرافية (75 كلم جنوب كيفه). فتشابكت عناصر المقاومة مع الفرقة الفرنسية فسقط دماسيز (Demassez) صريعا على أرض المعركة ومعه سينغاليان اثنان. كما جرح الرقيب شفال (Sergent Cheval) وخمسة من الرماة السنغاليين. وتذهب جريدة لوماتان إلى أن هذه العملية –على جسامة الخسائر التي تكبدها المستعمر- لا يمكن إلا أن تكون عملية معزولة ولا يمكن أن تؤثر على المناطق الموريتانية الأخرى. وقد أوردت نفس الخبر وبصياغة مقاربة صحيفة لا لانترن (La Lanterne) في عددها الصادر بتاريخ 26 مايو 1911.
وإثر هذه المواجهات الدامية قررت الإدارة الفرنسية زيادة عدد الجمالة بالعصابة دون سواها من المناطق كما أوردت صحيفة لوتان الصادرة بتاريخ 10 أغسطس 1911.
وسعيا إلى تأكيد مكانة كيفه بوصفها موقعا استراتيجيا في منقطة العصابة فقد ذكرت جريدة الحوليات الاستعمارية (AnnalesColoniales) الصادرة بتاريخ 23 مارس 1923 الخبر التالي: "بقرار من المحافظ العام لإفريقيا الغربية الفرنسية فقد تقرر جعل كيفه عاصمة دائرة العصابة بدل امبود".
شخصيات العصابة من خلال بعض التقارير الصحفية الفرنسية
الصورة: وفاة البيضاوي باشا عن جريدة حياة موريتانيا (Vie Mauritanienne) الصادرة عن الإدارة الفرنسية في سينلوي، ديسمبر 1945.
ما كانت وفاة البيضاوي بن سيدي عبد الله بن أمانة الله الجكني الإديشفي الشهير في المغرب بلقبه "باشا تارودانتْ" في 16 ديسمبر 1945 بالغائبة عن الصحافة الفرنسية في عهد الاستعمار؛ فقد أعطت جريدة "الحياة الموريتانية" التي كانت تنشرها الإدارة الفرنسية بسينلوي مساحة مهمة لذكر وفاة البيضاوي باشا منوهة بمكانته ومعرفته، وبعلمه وأدواره الاجتماعية السياسية والأدبية. ترك البيضاوي منطقة العصابة مع دخول طلائع المستعمر الفرنسي لينضم في الشمال للمقاومة الوطنية. كان في تلك الفترة فتى عبقريا لامعا، وهو ينتمي إلى أسرة أهل أية الشهيرة من فخذ إديشف من قبيلة تجكانت. وقد تعلم في حيه وعلى أخواله وأخذ عن أبناء مايابى فصار عالما لا يجارى وفقيها لا يبارى وشاعرا فذا، وقد طار نجمه وعلا شأنه في المغرب وقربه السلطان المغربي عبد الحفيظ بن الحسن الأول. حج البيضاوي قبل إقامته في المغرب وقبل توليه القضاء هنالك فزار مصر والحجاز ومر بفرنسا، وقال أثناء رحلته الاستشفائية الباريسية تائيته الشهيرة التي تعتبر من عيون الشعر الموريتاني بل الشعر العربي:
لا تخش من شعرك المختارِ غيلتَهُ ۞ وانشر علي صحف التبليع رحلتَهُ
كان البيضاوي رحمه الله، المدفون بمقبرة باب أغمات بمراكش، عالما قاضيا سخيا أريحيا، وكان يجيد اللغة الفرنسية، وعن طريقها قرأ الكثير عن الفكر الغربي. يعد واحداً من أبرز أعلام الموريتانيين في القرن العشرين. وهو الذي يقول مخاطبا الفنان الكبير امحمد بن انكذي الشهير بالأعور وكان ذا صلع:
لَعَمرِي لقد خُضتُ القُرَى مِن كُناكِر ۞ وَجَاوزتُ أرضَ الصَّينِ بعد الجزائِرِ
وبالمغرِبِ الأقصَى دِيارِى ومنشئِي ۞ وسامرتُ أربَابَ الغِنَا والمزامِرِ
فما سمِعَت أذنِي ولم يَرَ ناظِرِي ۞ كذَا الأصلع المشهُورِ عن كلُّ شاعِرِ
وفي أحد أعداد مارس 1949 من نفس الجريدة نجد إشارة للبيضاوي باشا أيضا وذلك حين غطت هذه الجريدة توشيح التاجر الموريتاني الحاج محمد المختار ولد التومي الجكني الرمظاني المولود بكيفه سنة 1904 والذي كان من أبرز رجال الأعمال الموريتانيين في مدينة اللوكة بالسنغال وكان من العناصر الموريتانية الداعمة للنائب أحمدو ولد حرمة ولد ببانا.
الصورة: تكريم أحد رجالات العصابة عن جريدة حياة موريتانيا (Vie Mauritanienne) مارس 1949.
وتحدثت نفس الجريدة في أحد أعدادها (25 مارس 1950) عن زعيم أهل سيدي محمود: محمد الراظي وأحمد ولد عثمان ولد بكار زعيم اشراتيت ومحمد ولد عبد المالك الجكني الأشفاغي وغيرهم من شخصيات العصابة الوازنة وكيف تم توشيحهم وتكريمهم.
كما نجد في عدد هذه الجريدة الصادر في 2 مارس 1949 ذكرا لتكريم وتوشيح المختار بن حويا الجكني الإبراهيمي. وقد ولد المختار بن سيدي الامين بن حويه سنة 1915م وأخذ عن عدة مشايخ من علماء بلده واشتغل بالفتيا والقضاء والتدريس حتي سنة 1936 حين تقلد رئاسة أولاد إبراهيم إلي سنة 1954 فخرج مهاجرا إلي البلاد المقدسة حيث استقر بمكة المكرمة فكان يدرس في المدرسة الصولتية هنالك.
الصورة : تكريم عدد من رجالات العصابة عن جريدة حياة موريتانيا (Vie Mauritanienne) مارس 1950
ونجد تغطية إخبارية هامة لبعض الانتخابات التي أجراها الفرنسيون في العصابة والتي تم التنافس فيها بين مرشح "كتلة غورغول الديمقراطية" (le Bloc démocratique du Gorgol- BDG) البيطري سيدا محمان وهو من أصول مالية وبين مرشح التجمع التقدمي الموريتاني (Union progressistemauritanienne - UPM) محمد ولد دحود.
الصورة: انتخاب مستشار لمنطقة العصابة وتكانت، عن جريدة حياة موريتانيا (Vie Mauritanienne).
ظلت منطقة العصابة بشخصياتها وأحداثها نقطة جذب للصحافة الفرنسية واهتمام بالغ من لدن الصحفيين الذين كانوا على تواصل مع الإدارة الفرنسية بسينلوي. من خلال الوثائق الفرنسية المتعلقة بالعصابة نلاحظ بسهولة أن هذه الإدارة كانت ترى أن هذه المنطقة التي تتوسط المجال الموريتاني هي بمثابة المجال الاستراتيجي الحيوي الذي تعتبر السيطرة عليه منطلقا للسيطرة على منافذ أخرى متصلة بهذا المجال. لذلك تعتبر هذه النصوص الصحفية والتقارير الإدارية ذات أهمية قصوى لمعرفة جزء من تاريخنا أحداثا وشخصيات.
انتهى.
سيدي أحمد ولد الأمير: