الـسَّــالِمِيةُ..
الشاعر والقصيدة.. الذكر والأنثى
قراءة: ابوه ولد محمدن ولد بلبلاه
(مدير الدراسات الأكاديمية بالمدرسة العليا للأساتذة بنواكشوط)
تسمو لغة الشعر بالغموض وتزدان بقابلية الانكشاف تحت وطأة قراءة غير محايدة تنتزع مفاتيحها من شبكة دلالات تنْحطم لتتشكل من جديد بين أمواج الثورة على واقع مرّ يحتضنه قلب هدّه الإبحار في معنى الوجود، وبين عالم ممكن ليأتي البوح قصيدة تبحر في بسيط الخليل وزنا وترسو على شطآن المعاني إيقاعا فتناجي الألفاظُ بعضها بطي المسافات بين المعاني ورصف الرموز وتوطين الموروث الثقافي بدء بالمقابلة بين الذكر والأنثى/ الشاعر والقصيدة، بما تحمل هذه الثنائية من دلالات الخلق والتكاثر والتشظي، ومن استعذاب للألم والنقص:
ما أروع الخبلا
والإثم والزللا
والجن والدجلا
.................
في تهكم تحترق فيه المعاني لترسم مخايل ثورة مكلوم يغترب في وطنه:
أنا الذي عذّب المعنى معازفه
ورام عن أهله كهفا ليعتزلا
فيضن بمعين شعره على المخلفين:
لا أنشد اليوم أشعاري ليفهمني
مخلفون على عجز... بهم عكلا
ويتسامى به على كل خامل متخاذل عن نجدة أمة تصرّف النسور الحمر زمنها وتستمرئ فئران الشر مؤازرة هوف الرياح ومحل الزمان على تعطيل عقلها الجمعي:
وكان عام النسور الحمر
يستر ظل القاعدين
ويأوي حولهم ظللا...
وبعده جاء "عام الفأر" كان على
بقية الشر؛ كل الشرّ؛ مشتملا
والهوفة استنبلت فينا مخالبها
وشوكت عقلنا الجمعي منعزلا
إنه الإبحار في قضايا الأمة حين يتحد مفهومها بمعنى الوطنية ثم تتسع في حركة حلقية لتشمل كل أمجاد الأمة، في سفينة شراعية، طولها خمسة وستون وثلاثمائة بيت، عام شعري كامل من الإبحار في الحضارة البشرية بما تحمله من شحنات إنسانية وثقافية ودينية ورمزية، سفينة متنها إحساس الشاعر المرهف وإيمانه الراسخ بحق أمته في استعادة ألقها الحضاري المفقود، وعرضها سبع عشرة قصيدة تنفخ فيها زفرات الثورة على واقع الأمة المنهوك:
1 ـ المقطع الأخير ناقص ما تعدون...
2 ـ المقطع الأول ناقص الأخير
3 ـ الحمام المعتدي
4 ـ كان ضوء
5 ـ المقطع صفر تحت النار
6 ـ المقطع نار تحت الصفر
7 ـ كهف بلا وصيد
8 ـ باب مدينة الكلاب
9 ـ عام النسور الحمر
10 ـ المدينة وبيض المرايا
11 ـ إجازة مرضية
12 ـ تقوست أسماؤنا
13 ـ الفيال
14 ـ عش للأفق
15ـ أعشاب غير عربية
16 ـ مفتي الشيطان
17 ـ الجبل المتردم... البحر الغريق.
ولعل من نافلة القول الإشارة إلى أن عنونة القصائد مسلك درج عليه الشعراء للتمييز بين النصوص، ولإتاحة معبر منه ينفذ القارئ نفاذا آمنا إلى معنى القصيدة، وللشعراء، بقوة الطبع، الحرية في اختيار العنوان، فليست هناك قواعد ثابتة، غير أن واقع النصوص يغري، حدّ التواطؤ، بزعم مفاده أن قلة عدد كلمات العنوان محمودة في عتبات النصوص.
وبإلقاء نظرة عجلى على عناوين المجموعة الشعرية التي بين أيدينا نلحظ التركيب والارتصاف على نحو يفضي إلى تمدد عتبات النصوص ويساهم في تأخير الولوج إلى معنى النص، غير أن هذا التركيب مشحون بالدلالات التي ترصد مستوى المعاناة التي يصدر عنها الشاعر في بوحه، حيث يترجم بعض هذه العناوين الحيرة والارتباك المنبثق عن استبشاع ما وصلت إليه الأمة من تخلف عن ركب الحضارة فيأتي العنوان مربكا في هندسته اللغوية وفي ما صدقه الواقع:
ـ المقطع الأخير ناقص ما تعدون…
ـ المقطع الأول ناقص الأخير
ـ المقطع صفر تحت النار
ـ المقطع نار تحت الصفر
ـ المدينة وبيض المرايا
كما تفصح عتبات أخرى عن التيه والمعناة ويظهر ذلك جليا في قصيدة (الفيال)، فالفَيال لعبة لفتيان الأعراب بالتراب يخبئون فيه شيئا ثم يقسمونه إلى قسمين، ثم يقال للمخبئ في أي القسمين هي، فإذا أخطأ يقال له فال رأيك.
ولعل في استدعاء معنى الحرز والتخمين ما يوحي بهزلية الواقع وتلاشي المنطق فيه:
سكر ينادمنا من صحوه شبما
وفي تغافله وعي النهى نهلا
وعازف الطين فيال على جدر
ربت إليها غلام الطين مرتبلا
...............................
وخمّن التل إحبالا فنادمه
حثوا من الرمل عن عينيه ما انتبلا
أما عتبات الألم والغواية فتجسدها العناوين:
(المقطع صفر تحت النار، المقطع نار تحت الصفر، مفتي الشيطان)
إن الزمان الذي أغويته ارتحلت
على أصدائه أركان من حملا
..............................
كم هو أعمى من احتاج الضياء لكي
يرى الظلام إلى غاياته حيلا
ويلاحظ القارئ في غير عناء أن مصادر الصورة الفنية في المجموعة الشعرية التي بين أيدينا تستقي حشوها من التراث العربي الإسلامي، يظهر ذلك ابتداء في بعض العناوين كاستحضار قصة أهل الكف في العنوان (كهف بلا وصيد) بما تستدعيه هذه القصة من رسوخ الإيمان وقوة المعتقد ومن بشارة بإحقاق الحق، إنه استنساخ المشهد التاريخي لبث الأمل في نفوس أبناء الأمة:
هل آن أن يخرجوا كهفا وتاسعهم
حمران أي وصيد يبسط الجزلا؟
قد نور الكهف من آياته عجبا
كم ضل نجم أهدى كهفهم سبلا
وقد كان للأعلام، أعلام الثقافة والشعر والتاريخ، حضورهم المهيمن في تخصيب النص وشحنه بالمعاني:
وأين للشاعر البعثي مرتحلٌ
وهل له دونهمْ أهلٌ إذا ارتحلا
كم يحمد الشنفري الأهل منتبذا
لو أدرك الآن أهل الذلة انعزلا
فإن هذا الحضور موظف عن نية وسبق إصرار لما له من انعكاس على ذات المبدع، فلئن كان الشنفري يهرب من واقعه المعيش المتميز بالحيف والتحامي على المطالبين بالإنصاف وإحقاق الحق، فإن واقع شاعرنا الظالم المظلم يحمله هو الآخر على الثورة ضد القهر وانهيار القيم إلى تمجيد عالم الحشرات لما يسوده من سكينة ووقار.
تلك محض أمثلة سقتها لجلاء مدى ارتكان نصوص المجموعة إلى التراث العربي الإسلامي، وبذلك يغتني الفعل الإبداعي، "فكل نص لا يتناغم مع التراث فهو نص باطل" كما يقول رولان بارت.
والمجموعة الشعرية كما يلاحظ من له مسكة ذوق أدبي ذات معجم لغوي يجمع بين القاموسية والسهولة في تناغم يعكس الثنائيات الثاوية خلف النصوص: (المبدع والنص) و(المبدع والعالم) و(حاضر الأمة وماضيها) ينم عن حس أدبي رفيع يرفل صاحبه في ثقافة شمولية عالية ومخزون لغوي فياض وموهبة شعرية فذة، و للمختار، رعاه الله، قدرة بركانية على توظيف هذه الموهبة لخدمة النص، و إنه لشاعر جعل من هم الأمة و من تعرية واقعها أرضية خصبة عليها يتكئ إبداعه، ومن ثقافتها قاعدة خلفية منها يستمد العتاد و العدة في الهندسة المعمارية لنصوصه، فله على ذلك، أصالة عن ثقافة الأمة و نيابة عنها، الثناء الثمين.
نواكشوط، في 16 مارس 2019