عن أدب الحرب والسلام في موريتانيا / الأستاذ أحمد سالم ولد التاه

سبت, 08/12/2023 - 21:04
التا

(تدوينة تعليقا على رأي للكاتبة النجاح محمذن فال في مجموعة "سدن الحرف")

 

الدكتوره النجاح،  
قراءة  معللة و تحليل دقيق و اسلوب شيق كما تعوّدنا من  يراعكِ ذي الهداية في خبايا التراث الادبي و  ذي البراعة في فك رموزه المستعصية على غير الحذق به الخبير بشعابه و متاهاته..
 الطلعة - كما تفضلتِ - وليدة بئة و زمان و ظرفية تاريخية،  وقد  أرادها صاحبها فيما يبدو رسالة سلام موجهة إلى بني جلدته المتحاربين من حوله في فترة  اتسمت بالخشونة و القسوة  و اعتماد الحرب حلا  لكل المشاكل ...و قد يُلاحَظ عرضا ان الحقبة الزمنية المعنية  تميزت عما قبلها  بوجود أيادي خفية  اجنبية (فرنسية)  تسعى   لتأجيج المواجهات  بين القبائل، و  لإسعار الحروب  بين الفرق  في داخل الإمارات بوسائل التسليح المكثف و نفث الوشايات، و التشجيع و الإمداد بالمال  تحضيرا للاحتلال المزمع...ذلك ما يُسستقرأ بسهولة من تقارير الولاة الفرنسيين في سان الويس   و من رسائل  المفوض الفرنسي في الإقليم الموريتاني اكزافيي كبلاني، حيث تتردد  في تلك الوثائق  عبارة  "...و لسنا اجانب على ما حدث" في سياق حديثهم عن اغتيالات   و مواجهات و نشوب حروب.. لقد جاء  العامل الخارجي لينضاف  إلى مُسبِّبات الحروب المعهودة السابقة على وجود الفرنسيين في الساحة، و خيّم جراء ذلك التضافر جو من القلق العام و توجس الشرور و استشعار الحدس الجمعي مخاطرَ غير مسبوقة..
في تلك الظرفية جاءت الطلعة (ادليم و غيلان و مشظوف..)  بنغماتها الهادئة اللطيفة المشحونة بالعطف و الحنان،   و بلحنها المختلف عن الموسيقى الحربية  الصاخبة المهيمنة على الاسماع أنذاك (عراي اسروج،   دمدمة طبول الحرب، أصداء الاشعار الحماسية،  المشاعرات الساخنة بين العشائر  ...) ويبدو ان  الطلعه صادفت  هوى في نفوس الناس إذ ذاك   ، بدليل ان الذاكرة الجمعية انتقتها مع ما تنتقي، و احتفظت بها ضمن مفضلاتها  حتى اوصلتها لنا عبر قرن و نصف من الزمن...
تنفرد الطلعة بميزات لافتة  إذا ما اعتُبرت من زاوية التعامل الجمعي معها...فهي تتميز بتعدد الأبعاد و القراءات الممكنة و بأن الذين يحفظونها  - و هم كثر- لا يكاد يوجد من بينهم من يعلم بالتحديد  غرضها  و لا من يُحدّث  عن  هوية قائلها، و كأن كل ذلك لا يهم و إنما المهم شيئ آخر  مُتضمَّنٌ فيها.. يحفظونها و ينشدونها  بدون تعليق..و يدل ذلك في سجل النقد الصامت عند البيظان على ان النص اجتاز كل الامتحانات و فاز بالقبول ضمن الدواوين الخالدة في الذاكرة الجمعية -  على غرار المعلقات  في العهد الملحمي عند العرب.
هل الطلعة غزلية؟ إذا كان ثمة ما يؤيد ذلك الرأي فإن اعتبارات أخرى تشير بعدم الجزم عليه.. و من  تلك ان    مُلهمة الشاعر "اطفيله" بالتصغير، "هوْن" - و هي كلمة لها مدلول في العرف  البيضاني-  "تتّفّن و ادّمكي لحروف"...و هنا يَمثُلُ السؤال : من هن الإناث اللائي يعتبر التغني بهن او عليهن غزلا ؟...هل منهن البنات قبل سن المراهقة و السيدات الطاعنات في السن ؟...ليس لدي رأي في المسألة ، و اعتقد أنها من اختصاص علماء الفيزيولوجيا و علماء الاحياء...بالإضافة  إلى  المُشرِّعين الذين سنوا عقوبات قاسية في حق المتحرشين بالصغار  و حددوا  من يقصدون بالصغار.
الاكيد ان الغزل في الشعر الحساني و الفصيح  كليهما يكون موضوعه في الغالب الاعم إناثا بلغن  السن التي  بِبُلوغها تصبح الأنثى  مهيأة لتأدية وظيفتها الطبيعية المتمثلة في كونها تجليا من تجليات الجمال، و في كونها تجذب الذكور جذبا كفيلا بضمان استمرار النوع البشري، و ما اعظمها من وظيفة...اما التغني على  من لم يبلغن تلك السن او  من تجاوزنها حتى بلغن سن التوقير،  فنادر  حسب علمي المتواضع.. و ما وُجد منه فغالبا ما يكون من باب  "اتحجليب" بالنسبة للصغيرات، أو من باب الالفة و حفظ العهد  و الأناقة و مواصلة علاقة عاطفية  مع رفيقة حياة تجاوزت عصور الصبا  و أصبحت منشغلة بأمور دنيوية و اخروية تليق بمثلها...و من جيد ما قيل في ذلك الباب قول محمد ولد هدار مخاطبا زوجته ، و مستعرضا محطات حياتهما الغرامية و الزوجية    بعد ان  بلغا سنا متقدمة:  
عاري ما حاجلك ممشاك 
من عند إجغماجك موطاك 
 فينَ مَمْشانَ ذاك امعاك 
اتّافيكتْنَ ذيك امجيك
ذاك امن ابلدهم دهرْ اكراكْ
فيهم ذاكْ الدَهر اسْكِ بيك...
(اللقاء الاول)

و امْجينَ فالليلْ لْتاتيلتْ
حاجلك ؟ عاكب تاسدبيتْ
نَ  ذيك الي عكْبتها سَريتْ
نَ من عند اهلْ اللِّيمَ ذيكْ..
ؤ حاجلك تشْراكي شَريت
 الناّكَ ...؟
(الزواج و الارتحال إلى حي الزوج،  و اسفار الرجل في تدبير  شؤون الأسرة و جلب الحلائب)

...دهرك ذاك اعليك
غلّاك اعلي عربي
ؤ غلاك امّلي زاد اظريك
 اعلي يَمنْتْ اعلي
ويلَ عدتي بعد اغل ذيك
السّاعَ من ظرك اعلي
اثري ذيك الساعَ نبغيك...

و قول الآخر : 

كهْلَ وامْ اعيال عدتي 
ؤسغْركْ عنّك زالْ
غير الّ محكوك كنتي 
شي فيك ؤ مزال.

 أما التغزل على الكواعب و العواصر  اللائي ما زلن في بداية مشوار  الانوثة النشطة، فمن أحسنه قول ابراهيم ولد ابراهيم علما:
طفلَ عادي بيهَ
فيكم بكْطاطيهَ 
و اكليِّيلْ احْليهَ
ؤ من لغياد انْكظْ هاكْ
و اكليِّل شي فيهَ
لمنادم ماهو حاكّْ
مَهَللّ من لغيادْ
ما سمنتْ بعْدْ أياكْ ؟
ويّاكْ احليهَ زادْ
ما عاد اكثرْ من ذاكْ ؟

أما "اتحجليب" الصغيرات   بالشعر الحساني، فلا هو غزل و لا هو ترقيص، و كثيرا ما  ينسجه الشعراء على طلب من امهات البنات أو من تلقاء انفسهم، و ياخذ اشكالا متعددة، و تُتوخى فيه الطرافة و البديع من الإطراء...
ذلك ما جعلني اميل إلى أن الطلعة محل الحديث أقرب إلى نوع "اتحجليب" منها إلى نوع الغزل.. مع ان محتواها الجوهري يبقى  نداءً و دعوة إلى الكف عن الاقتتال،  و الاحتفاء بالجمال..و الله اعلم بمراد الشاعر.