كانت تلك خامس محطة سكنية لي في تونس بعد شقة "نهج بيروت" بحي باردو، ثم الاستديو المقام في مرآب سيارة، والذي انفرد فيها أنا والزميل الإمام مدة أشهر، لنزحف بعدها جنوبا باتجاه حي ابن خلدون بدءاً بمنزل الخالة دليلة، ومنه إلى دار "الفئران" لننتقل نقلة نوعية إلى دار "القط المتوحش"
كانت شقة واسعة وراقية بالطابق الثالث من عمارة مطلة على مبنى البلدية بحي ابن خلدون.
أتذكر جيدا أنني رأيت فيها لأول مرة مفاتيح المصابيح الكهربائية القابلة للتحكم في مستوى الاضاءة، كان ذلك بالنسبة لي ثورة علمية توازي اكتشاف توماس اديسون للمصباح الكهربائي نفسه.
كان انتقالنا إلى تلك الشقة الجميلة بصالتها الواسعة وطاولة الطعام الزجاجية الفخمة التي تتوسطها، بمثابة نقلة نوعية حسدنا عليها الكثير من الزملاء.
ولأن وجبات الطعام لم تكن بتلك الوفرة والتنوع، بل الغالب هو غيابها أصلا، فكنا نستخدم طاولة الطعام وكراسيها الوثيرة لسهرات لعب 'بلت والبوق" التي لا تكلف أكثر من نصف دينار لشراء علبة الورق والكثير من قناني المياه المعبأة من الحنفية التي سيتجرعها الفريق الخاسر، وعادة ما يتضلع منها الجميع، فلعبة الورق لا تعرف رابحا دائما أو خاسرا دائما، وإنما هي دول بين اللاعبين، فالليل طويل والماء يكفي الجميع.
كانت لدى ساكني إحدى الشقق بالطابق الثاني قطة اليفة من فصيلة "بيكي فيس" تعمل في منزلهم بدوام نهاري، لكنها تبيت خارج المنزل لدواعي اجتماعية.
ويبدو أن هناك اتفاقا ضمنيا بينها مع مشغليها على ذلك، فهي تقوم بالتزاملتها نهارا على أكمل وجه، لكنها حرة فيما تفعل بنفسها حالما يجن الظلام.
ولأن الوحدة قاسية خاصة في ليالي الشتاء الطويلة والباردة، فلم يكن للقطة المسكينة بد من اتخاذ رفيق يؤنس وحشتها وتتبادل معه أطراف المواء.
ولأنها لم تكن مقيمة في المنزل بشكل دائم فكانت -على غرار نظام "اجيرة" لدى العاملات غير المقيمات- تستلم عشاءها خارج منزل ذويها. كانوا يضعونه في وعاء عند باب الشقة حالما يتهيؤون للنوم ويغلقون دونها الباب الذي لن يفتح إلا صباح الغد عند بداية دوامها اليومي.
والواقع أن تلك الوجبة الخارجية كانت من بين أشياء أخرى، قد أغرت قطا مرقطا من نوع "السرفال الافريقي" بمرافقة تلك القطة العاملة الكادحة.
كان القط المحظوظ متوحشا عاش معظم أيامه متنقلا بين الأزقة، يحصل على طعامه من حاويات القمامة بعد خوض معارك تتفاوت شراستها حسب قوة الخصم، فقد تقتصر على الهرير والتكشير عن الانياب، وقد تتطور إلى العراك الدامي الذي يخلف ضحايا على أرض المعركة.
يبدو أن تلك الحياة القاسية عجنت ذلك اللاحم الصغير ذا العيون العسجدية الثاقبة فأورثته من المميزات ما مكنه من التسلل الى قلب تلك الأليفة المتحضرة.
لا أحد يعلم متى كان اللقاء الأول بين الخليلين، أو لحظة اشتعال جذوة الحب بينهما، فربما كان ذلك عقب انتصار مبين لصاحبنا في إحدى المعارك الروتينية مع زميل من رفاق الأزقة، وربما عازلها بأن أهداها إحدى طرائده من سمان الفئران، كل تلك الاحتمالات ممكنة في تفاصيل قصص غرام القطط.
كان من عادة ذلك السنور الماكر، أن يصعد إلى خليلته أول الليل ليتناولا معا وجبة العشاء بعيدا عن النزاعات الدائرة على بقايا الطعام حول حاويات القمامة، كانا كذلك يسهران ويتسامران بعيدا عن عيون العذال والفضوليين، ولم يكن هناك ما يقطع خلوتهم أو يكدر صفو مجلسهم إلا أصوات أقدام أولائك الموريتانيين الذين يشاطرون وحدهم القطط عادة التسكع ليلا والناس نيام، على رأي إخواننا التوانسة.
كان يتحتم علينا لنصل إلى شقتنا أن نمر من أمام شقة الجيران، وكان الأمر مزعجا للقط من ناحيتين، فبالاضافة إلى الطبيعة المتوحشة لضيفنا ونفوره الغريرزي من تلك الكائنات الطويلة التي تمشي على رجلين، كان هناك عامل آخر متمثلا في قطع خلوة ذلك الثنائي الحالم، تلك الخلوة التي ربما تضمنت لحظات انسجامت لا يستحب للأغراب أن يشهدوها.
وحسب رأيي فإن مرد انزعاج القط من مرورنا ليس بالضرورة راجعا إلى أسباب شخصية ذاتية، فمثله ممن تعودوا على أخذ الدنيا غالبا، قد لا يولي كبير اهتمام لأمثالنا من الكائنات الطويلة البلهاء، لكن الأمر حسب تحليلي راجع إلى الإحراج الشديد الذي يعتري شريكته المؤدبة من رؤية الجيران لها مع غريب، وفي وضعية خاصة جدا. ويبدو أن صاحبنا كان يتصرف غيرة على مشاعر رفيقته التي لا تسمح لها تربيتها الشديدة وتهذيبها المبالغ فيه بالاحتجاج علنا على أولئك الثقلاء الذين يقتحمون خصوصيتها كل ليلة، فتركت الأمر بيد ذلك النزق المتوحش ليعبر نيابة عنها بغضب عارم يصبه علينا ونحن نهم بصعود السلالم.
كانت غريزته المتيقظة تشعره بوصولنا فور وضع
أول قدم على أول عتبة في السلم، فيبدأ بإصدار أصوات تهديدية مرعبة أشبه ما تكون بهرير الكلاب. كانت الأصوات ترتفع وتتطور مصحوبة بتأهب للهجوم كلما اقتربنا، وما إن نصل إلى الطابق الثاني حتى يندفع نحونا بأقصى سرعته، والغريب أنه لم يكن يرضى بغير المرور من بين قدمي أنا، وأنا الذي تشعرني مجرد رؤية القطط من بعيد بالقشعريرة.
ما زلت أذكر أن هاجس العودة ليلا إلى المنزل كان يشكل مصدر قلق شديد لدي، وربما دفعني إلى التفكير في البيات خارج المنزل رهبة من العودة، مع أني لم أفعلها قط وإن حدثتني النفس بها مرارا.
إن خوفي من ذلك القط يذكرني دائما بتبرير صديقنا إبراهيم لهروبه المشين من منزل الفئران ذات هجمة لأحد فئران "الهامستر" علينا ونحن نتناول طعام الغداء، قال لنا إبراهيم: أنا متيقن من حتمية انتصاري على الفأر في أية مواجهة مباشرة و نزيهة، ومع ذلك فما إن أنظر في عينيه الصغيرتين حتى أجدني قد أسلمت ساقي للريح.