إعلان

نقيق الضفادع، والصمت/الجريمة(تدوينة سابقة)​​​​​​​ / أدي آدب

ثلاثاء, 06/09/2020 - 02:11

 

 

 

لِكُلِّ من الكلامِ والصمْتِ فَضِيلتُه، إذا تنَزَّلَ فِي مَوْقِعِه وسِياقِه المُناسِبِ، فمَا كُلُّ كلامٍ منْ فِضَّةٍ، ولا كلُّ سُكُوتٍ منْ ذَهَبٍ، فالإفْصَاحُ ضَرُورَةً وُجُوديةً، ومن هنا كانَ البَيَانُ نِعْمَةً من الله مُرَادِفَةً لِنِعْمَةِ الخَلْقِ ذاتِها، فمِنْ رَحْمَتِه بِنَا-جَلَّتْ قُدْرَتُه- أنَّه عِنْدَما "خَلَقَ الإنْسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ"، وقد أعْطانا أجْهْزَةَ الكَلامِ: لِسَانًا وشَفَتَيْنِ، وهَدَانا النَّجْدَيْن، لنقْتحمَ عقبة التعْبير الصادِق، حتَّى ولوْكانَ ذلك مَحْفُوفًا بالمَخاطِرِ، ويتأكَّدُ هذا بالنِّسْبةِ لنُخَبِ المُجْتَمَع الواعِينَ، أكْثرَ منْ غيْرهم، لا سيما عُلَمَاءُ الدِّينِ، العارفينَ بتقْديسِ أيِّ " كَلِمَةِ حَقٍّ عنْدَ سُلْطانِ جائرٍ"، وباعْتبار "السّاكِت عَنِ الحَقِّ شيطان أخْرَس"، ولا يكونُ للصمْت أيّ فضيلةٍ، إلا إذا كانَ تأمُّلا، أو تعفُّفا عن الفجور،والبَذاءات.

وعلى ضوْءِ هذا كانَ السلاطينُ عبْرَ التاريخ، يعْرفون قوَّةَ سُلْطَةِ الكلمة، ويسْعَون دائما إلى توْظيفها لخِدْمَتِهم، منْ خِلالِ تحْويلِها إلى تَطْبِيلٍ وتزْمِيرٍ ونقيقٍ، مديحًا وتَمَلُّقًا، وإلا أخْرَسُوها، وكمَّمُوا أفْواهَ أصْحابِها، غيْر أنَّ أحْرارَ النُّخَبِ -غالبا- لا يَخْضَعُونَ للكبْتِ المُتَسَلِّطِ، بل يتمرَّدُونَ عليْه، فيجْهَرُونَ بالمُعارَضَة تصْريِحًا، حينَ يَجِدُونَ في التعْبِيرِ عنِ ما يعْتقدُونَ أنَّه حقٌّ له لذة، تتفوَّقُ على مَرارَةِ العُقُوبَةِ المُنْتَظَرَةِ على ذلك، كائنةً ما كانتْ، أو تَلْمِيحًا حينَ لا يَمْتلِكونَ شَجَاعَةَ التصْريحِ والمُوَاجَهَةِ، فيلْجَؤونَ للتعْبيرِ، بخِطابٍ مَرْمُوزٍ، سمَّاه جابر عصفور، في بعْضِ مَقالاتِه: " بلاغَةَ المَقْمُوعِينَ"، التي يرَوْنَها مَنْزِلَةً بيْنَ مَنْزَلَتَيْ الصَّمْتِ الجَبَانِ، والتَّصْريحِ الجَريِءِ.

وحَوْلَ جَدَلِ النَّقِيقِ ، والصمْتِ السَّلْبييْن، نَسْتأنِسُ بالميثيولوجيا الشعبية، التي هي التفسير الثقافي للظواهر الطبيعية والأساطير، حيث نَجِدُ ثقافتنا الشعبية "الحَسَّانية" تُفَسِّرُ "نقيقَ الضفادع" تفسيرا إيمانيا، متشبِّعا بالتوَكُّل على الله، يري أنَّها تقول: "باق.. باقْ.. مولانا هو الرَّزَّاق"، بيْنما نَجِدُ الميثيولوجيا الأقدم كانت تفسُّرُ نقيقَها بأنَّه إمْعانٌ في الصمْت.. لأن شَرَقَها بنِعْمَة المَاء، يقتضي نِقْمَةَ التكْميم، عن التعْبير... وقد نَظمَ أحدُ الشعراء القدماء- كما في كتاب "حياة الحيوان" للدميري- هذه الرُّؤية، في وَمْضَةٍ من شِعْر الحِكْمَة:

قالت الضفْدعُ قوْلا** صدَّقتْه الحُكَما:

في فمِي ماءٌ، وهلْ** ينطقُ مَنْ فِي فِيهِ مَا؟!

فأصبحَ ذلك- عبْر التاريخ- مَثَلًا للنُّخَبِ التِي تُقايضُ- رغَبًا ورَهَبًا- صمْتَها عن إعلان الحقّ، بحشْو فمِها ذهَبًا، أوْ خبْزا، أو حتى تِبْنًا... في بعْض الأحيان.

أما التحليل السياسي المعاصر عندنا، فقد نقلَ "نقيقَ الضفادع" من خاصية الصمْت الجبان المدْفوع الثمَن، إلى الضجيج المأجور.. الذي يُناقُضها من جهة النُّطق، ويُطابُقها من حيث الاشتراك في ارْتهانِ الحنْجُرَة.. لوَلِيِّ النِّعْمَة، أومَنْ يُخالُ كذلك، على الأقلِّ.. عبْر ما يُسَمَّى "أبْواقَ السُّلُطات"، وأنا أسَمِّيهِ "الحَناجِر المُؤَجَّرَة"، وقد خَصَّصْتُ له قصيدةً في أوَاخِرَ التسْعينيات، مُسْتوْحاةً من منْظر المُتَمَلِّقِين، وهم يَلْتَقِمُونَ الأبْواقَ فِي الحَمَلاتِ الانْتخابية، والدعائية، المُتَنَاسخة عنْدنا، بلا جَدْوَى.

كمَا أعلنتُ رفْضَه، في قصيدةٍ أخرى، من تلك الفترة، تصورتُ فِيها مَقْعَدَ الوَظِيفةِ الرسْميةِ مقْعَدا أسْطوريا، فاقدا لوظيفتِه الطبيعيةِ، حيث لا يَجْلِسُ عليه المُوَظَّفِ، بقدْرما يعْتَرضُ في حَلْقِه، كمامَةً، تُسْكِتُه، وطُعْما يَصْطادُه،؛ فقلتُ- في "نزيف مشاعري"، مفضِّلا حرية التعبير، والرأي، والخيار-:

رمضُ الرَّصِيفِ.. أعَزُّ.. لِي.. منْ مَقْعَدٍ

يَحْشُــــــــــو فَمِي.. وا صرخة الأوطان!

في تَمْتَــــمــــــاتي.. مــــــــا تزال بقيةٌ

منْ كبْرياءِ الحرْف.. مِلْءَ جَنَــــــــاني!

الخلاصة: أني أدعو " النُّخَبَ العربية"- بمُخْتلفِ أطْيافِها- إلى العوْدة "بنقِيق الضفادع" -السائدِ اليوْم- إلى مَفْهومِهِ الإيمَانِي المُتسَامِي، في توَكُّلِه علَى الله، واسْترْزاقِه لله، الذي اخْتارُه أجْدادُنا مَلْمَحًا ترْبويا كريما، أرَادُوا أنْ يُورثُوه لأبْنائهم، عبْرَ منظومتهم التربْوية الشعْبيةِ الحَسَّانية، "فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ"، أضاعوا ثقافة " المُعْتزِّين بالله"، "المتوكلين على الله"، مهْما كانت الظُّروف، وتبَدُّلات الصُّروف، فَفِي فتراتِ الاسْتبدادِ، إنْ لمْ يكنْ صوْتُكَ مُتناغِما معَ جوقةِ أبْواقِ السُّلطان، ستنالُكَ العُقُوبَةُ عَلَى كُلِّ حالٍ، حتّي لوْصَمَتَّ، فكنْ مُعَاقَبًا على "كلمة الحق"، لا على "السُّكوتِ/المُدَان".