د.اعل الشيخ الدح
أنجبت بلادنا موريتانيا على مر العصور كوكبة من خيرة العلماء. هؤلاء العلماء الشناقطة كان علمهم نموذجا يحتذى به لما تميزوا به من خصال كريمة وفهم وحفظ فكانت الريادة لهم بلا منازع. ولعل معلمتنا اليوم تتعلق برجل لا كالرجال وسيرة لا كالسير إنه العلامة، إنه الأديب،إنه المحدث، إنه الفرضي عمي محمد الأمين ولد سيد أحمد البشير.
أسس لمرابط محمد الأمين ولد سيد أحمد البشير محظرته (معلمته الدينية،والتاريخية، والثقافية والإنسانية) في العام ١٩٤٤ في مسقط رأسه شنقيط ليستقر بعد أعوام قليلة في مدينة أطار التي مكث فيها يدرس ويشرح ويعلم ويأطر مايزيد على ٣٠ سنة وكان للرجل الصالح سيد أحمد ولد داهي كبير الفضل في مرافقة الشيخ محمد الأمين ولد سيد أحمد البشير وبذل الغالي والنفيس من أجل تحقيق هذا العمل الجبار فبنى له دارا للعلم وهذه الدار إستقر فيها الإمام حتى توفي وتم دفنه في أنواكشوط بمشورة من الرئيس المختار ولد داداه رحم الله الجميع.
كان رحمه الله نموذجا فريدا في عصره. إستهل دراسته من بادية يغرف التي تبعد ٧٠كلم من مدينة أطار عاصمة ولاية ادرار على يد جده لأمه محمد بن المعيوف فكانت هذه المرحلة مهمة حفظ فيها القرآن وبعض كتب المتعلقة بالعقيدة توفى عنه والده وهو في سن الثالثة عشرة فلم يثنيه ذلك على فهم مايريد وهو العلم وطلبه.و
بعد مشاورة بين محمد الأمين إبن ١٣عشرة وأخوه الدح إبن ٨يومها قرر الأخوين مفاتحة جدهما ووكيلهما محمد بن المعيوف برغبتهما في الذهاب لطلب العلم.
فكان الدح هو من فاتح الجد في موضوع الرحيل طلبا للعلم فقال الدح بن سيد أحمد البشير لجده لقد علمتنا أن الرأي بين المغرب والعشاء مبارك غالبا فقال الجد نعم شيء تريد قوله قال له مقولة الواثق أنا وأخي محمد الأمين قررنا الرحيل طلبا للعلم إذالم يكن لديكم مانعا. فأجابه سيكون ما أردتم إنشاء الله.
ليشد الرحال هو وأخوه الدح بن سيد أحمد البشير إلى آل محمد ولد محمد سالم وهي أسرة علم وفضل خرجت العديد من العلماء ممن كان لهم الفضل في نشر العلم في ربوع موريتانيا وحتى خارج موريتانيا فمكث هذا العالم الجليل رفقة أخيه الدح سنين عديدة يطلبان العلم ويتبحران فيه فكانا محط إعجاب وتقدير من أشياخهما وتحديدا الشيخ والعلامة عبد القادر "قاري" بن محمد بن محمد سالم المجلسي ففي هذه الفترة تضلع محمد الأمين وأخوه الدح في علوم الشريعة.
ليرحل محمد الأمين ولد سيد أحمد البشير مواصلا مسيرته في العلم وطلبه إلى العالم الجليل يحظيه ولد عبد الودود(اباه) فكانت محطة مهمة في تاريخ هذا العالم الكبير والشيخ الجليل من عجزت نساء زمانه أن يلدن مثله.
لم يخفي العالم الجليل إعجابه بإبن مدينة شنقيط محمد الأمين ولد سيد أحمد البشير فكان أقرب مقربيه لما وجد فيه من الصدق والعلم والصلاح والصبر عرف حينها العالم الجليل اباه أن محمد الأمين سيكون له شأن كبير وهو ماكان بعد ذالك بمشيئة الله.
مكث لمرابط محمد الأمين بن سيد أحمد البشير سبع سنين وكان أخوه الدح يزوره من وقت لآخر فكلاهما لايستغني عن الآخر لسان حال محمد الأمين لولا طلب العلم والصبر عليه ما افترقنا.
وفي إحدى زيارات الدح لأخيه محمد الأمين طامعا في رجوعه معه حتى يطمإن قلب أمه موكف العزة بنت محمد المعيوف فبعد إنقضاء أيام الزيارة الثلاث أراد الدح الرجوع فمر على الشيخ اباه مودعا فأخذ بيده وقال: سلم لي على موكف العزة (والدة لمرابط)، وقل لها: إنني آثرت نفسي بمحمد الأمين طوال هذه الفترة، لكنه سيأتيها وقد أصبح في مرحلة علماء "مشِّ"؛ إشارة إلى أنه قد أذِن له في مغادرة المحظرة والشروع في نشر ما علِمه بين الناس.
كانت أحد أهم ميزات هذا العلم شدة تبجيله وتقديره لأبناء شيوخه، فهم مقدمون عنده في الدرس دائما. وأن الشيخ محمد المصطفى بن مباركو الإجيجبي التمس من المرابط مرة أن يسمح له بتنظيف ثوبه، فرفض ذلك متعذرا بأنه ما كان ينبغي له أن يستخدم من له صلة بأهل الصفراء والكحلاء في مثل هذا.
وقد
حدثني أبي محمد الأمين بن الدح بن سيد أحمد البشير إبن أخ العلامة محمد الأمين ولد سيد أحمد البشير أن لمرابط محمد الأمين لم يكن من المتشوفين لجمع المال بل كان من الزاهدين المترفعين عن الدنيا ولا يقبل عطايا المال العام كان يقول دائما أنه لا يعمل لدى الدولة. ولا من المتسابقين إلى كسب الحظوة عند أهله، تكرر مرات عديدة ـ كما روى العدول ـ أن يأتيه الرجل بالمال متوسلا إليه أن يقبله، فلا يزيد على أن ينادي على أحد الطلبة: افلانْ اسمعتْ ذاك، إيذانا بأن ذلك المال له وهذا دليل على زهد هذا العالم ورغبته في ما عند الله .
حسب الذين عايشوا الرجل لم يكن يوما من المسارعين إلى الفتوى، بل كان يأخذ الوقت ويتبين ويتحرى، وغالبا ما يحيل المستفتين في مواضيع تتعلق بالنزاع إلى القضاء.
بخصوص التآليف، قلد شيوخه وخاصة شيخه العلامة يحظيه و شيخه العلامة أحمد بن محمد سالم، فلا يذكر لأي من هؤلاء تصنيف أو كتب أوإصدارات من كتب وبحوث ومقالات متخصصة ، بل كان جهدهم منصبا على نشر العلم عن طريق التلقين وهي الطريقة التقليدية الأصيلة التي إعتمدها الكثير من السلف فالعلم كما يقال من أفواه الرجال لا من بطون الكتب.
في سنة ١٩٦٨ زارت مدينة أطار بعثة من مجلة العربي الكويتية وكتبت عن محظرة الإمام محمد الأمين بن سيد أحمد البشير:
على قارعة الطريق جلس التلاميذ يقرأون ويحفظون القرآن الكريم والأدب والسيرة والفقه بمثل هذه المدارس حافظ أهل شنقيط على الإسلام.
توفي لمرابط محمد الأمين في ابريل ١٩٧٧ بنواكشوط، وتولى الصلاة عليه الإمام الجليل بداه بن البصيري، ودفن بمقبرة لكصر، لما قدم الشيخ بداه بن البوصيري للصلاة على المرابط محمد الأمين، وضع يده على جبينه وهو مسجى على نعشه، وقال: هذا آخر العقلاء.
يقول العلامة المؤرخ المختار ولد حامدٌ وكان أحد تلاميذ العلامة محمد الأمين ولد سيد أحمد البشير عن العلامة لمرابط وهو في حياته وبين طلبته:
عصيت اللواتي في الهوى جئن نٌصَّحَا :: وقلت لعـذالي لحا الله من لحا
ولج فـؤادي في الهـوى متماديا :: وظل وأمسى في الغرام وأصـبحا
فأكدَتْ لواحي اللـوا ضل كيــدهـــا :: وقد كِدن بين العود يدخلن واللحا
فأقصـرن مني عن صريع صبابة :: أخى كبد حرّا وقلب تقرحا
أطاشت سهام البيـض أعشار قلـبه :: فغادرنه أو كـدْن قيسا مُلوحا
سلا وصحا أهل الصبابة والهوى :: سواه ولما يسْل هو ولا صحا
فدعْ ذا وعد المدح في الحبر إنه :: جدير بأن يثنى علـيه ويمدحا
على أنه تمسي القرائح عن مدى :: مدائحه حسـرى لواغب رزحا
أما والليالي العشر والشفع والضحى :: ومن صام للمولى وصلى وسبحا
لقد فاز هذا القطر بابن سِـد أحمد :: سليل البشير الحبر فوزا وأفـلحا
على حين ليل الجهل أظلم والهوى :: وروض الهدى والعلم والبر صـوحا
فأما الهدى والعلم فاخضل روضـه :: وأما ظلام الجهل فانزاح وانتـحى
غدا يشرح العلم الصحيـح ولم تكن :: علوم الهدى لولاه يوما لتشـرحا
يدرس ما قد كان درس مالك :: ويحي الذي أحيا ويمحو الذي محا
فتبصر نورا من ثناياه خارجا :: إذا ما ضحا للدرس في رونق الضحى
أيا من بك المنان قد رأب الثئا :: ويا من بك الله المفاسـد أصلحا
تبجـح هذا القطر منذ حللتـه :: وحق له والله أن يتبجحا
ليهنئْك أنْك اليوم قطب رحى الهـدى :: تدور بك الطلاب والقطب للرحى
وكنت بحمد الله فينا (محمدا :: أمينا) بتقصار الكمال موشحا