الدهماء ريم
شيء يقود إلى شيء.
......ا
في روضة أطفال لكصر، قرب بارْ كايْتَا، كانت تستقبلنا المغفور لها مريم بنت حامدينُ والرَّاهبة سيرْ يولاندْ، تحت الشّجرة العملاقة، تفتِّشان منَّا الأظافر والشَّعر واللباس،.. الاستحمام فِعْل الزاميّ يوميًّا، ومن تَبعاته شتاءً أن تدعَكني والدتي بزبدة الشِّيَّا Beur de carité ، كان ذلك من طقوسها التي لا تُساوم عليها، وأبتلعها بألم أخرس،.. يكرهُ زملائي الصغار رائحة تلك الزبدة وعقَّدوني بها، أصبحتُ أتقبَّلها دامِعة بعد الاستحمام، فتجبر والدتي انكساري بقطرات من عطرها (آسْ كالايْنْ) كضِمَاد لجِراح الرَّوائح،..، (آسْ كالايْنْ) لفظة سأعرفُ فيما بعد أنها إحدى القراءات الولْفيَّة ل (Eau de Cologne)،..
من هنا بدأتُ علاقتي بالعطر ودوّاماته الحسِّية المتوهِّجة، لتتطوّر لآفاق أرحب، اكتشفتُ سحر القطرات المجبولة على الجمال، المجعولة للسّعادة،.. تركتْ لي والدتي حريَّة مشاركتها عطرها مُسترخي الشَّذا حتى سنّ الشباب، حين بلغتُ مبلغ من تَطلبُ لفتَ الانتباه، واستيقظت بداخلي الأنثى، تخلَّيتُ عن عطرها وبدأتُ استنزل ذوقي الخاص وأمحِّصُه، فوقعتُ على Anaïs Anaïs من كاشارل،.. عطرٌ رقيق حنون، يفوح بالورد ، قريب إلى الطفولة.. يغلِّفُني بلطف حين أتوسَّله ، أرتادُ به السَّعادة لحظاتٍ قبل أن تتبخَّر رائحته، فقد كنتُ أقتني منه النُّسخة المزوَّرة ، لكني أتغافل عن أصلها وأُلبِسها إحساسا بَهيًّا،.. ثم عقدتُ اتفاقا سريًّا مع أثير Mugler Angel ، ماء عطر مُكثَّف بقارورة نجمية ساحرة، كان للكبار ولا يناسب عمري وقتها، ومزوَّرٌ هو الآخر، لكني بحاجة لما ينقلني بقوَّة إلى قلب الأنوثة، فقدَّمتُ مصروفي باحتسابٍ قربانًا لعالم يتنفس الدَّهشة..،
بدأت والدتي بالتضييق علَى اندفاعي المستَفز، تحاول بأعذارٍ لم تجد مسلكًا إلى عقلي أن تكبحَ شراهة الشَّم، ومن ضمن أعذارها عدَا عن التربوية والشرعية، أنَّ المُتَعطِّرة " اعروسْ اهلْ لخلَ"، فأجيبها بتعجُّب: الغريب، أنِّي استخدمتُ كل رصيدي من المغناطيس وما زلتُ عاجزة عن جذبِ وعدٍ كاذبٍ من عريسٍ من الإنْس، فكيف لرشَّةٍ من عطر رخيص، يَتنبَّل بفتات رائحة زائفة في قنِّينة تنْتَحلُ صِفةً، أن تجذب عريسَ غفلة من الجنِّ جاهزًا،.. لايْسَفرقْهم.. ، شحذتُ مهارتي اللغوية الكيِّسة لأقنعها بأنَّ الارتقاء بالمقاصد يُحصِّن من البهيميات الحِسِّية التي يجلبها العطور إلى مُخيِّلة البظان في تكلّف.
العطر من أظْهَر مُشهِّيات الحياة، ومن خُلاصات الرُّقي التي حُبِّبَت إليَّ من دُنيانا، يُخفِّف أحوالي، يكثّفها، يَفهمني حين أتكلّم، حين أتألّم، أو أتظلّم، صديق عمر مُخلص.. لي عزيزة مقيمة بالخارج، تسألني كل سنة عن هديَّتي، فلا يَطُوف برغبتي غير: عِطر!، .. كان آخر تعليقاتها: مَطْولْهَ اعليك خَنْزه.
تتراوح سمعة العطر بين خانات الضَّرورة والتَّرف والافتان، شخصيًّا أحجزه في الخانة الأولى والثانية، وأبعده عن ومضاتِ الشَّرر في لعبة الحواس، حتى لا يحترق..
في مرحلة مَا من تبصُّر عالم العطر بوعيٍ، أدمنتُ عُمق بَذَخ شانيلْ، بشعوره المخملي السّخي، ثم السلسلة الشّهية لدْيورْ، وما تختزنه من أنثويَّة صارخة،.. طبعًا تصعب خيّانة عطر لصالح آخر،.. أحيانا أعقد اجتماعا لمجلس إدارة مزاجي وأعرض عليه عزمي تغيير خط اختياري، وعند التَّصويت أكون أول الخاذلين لقراري، لم أقوَ على انصراف أبديٍّ عن رفقتي من القوارير التي عاشَرتني..
في مرحلة قريبة، أبحرتْ حواسِّي نحو لانكوم، وآخر مرافئها كان عطرها المُلهم، من أريج الخيال La vie est belle ، أجمل روح عطر عرفته حتى اليوم، أشعر معه بالشّموخ، بأنَّ عنقي يتمدَّد للأعلى وتزداد فقراته كلّما تَضوَّع ، وخصوصا إذا قيَّض الله لي رفقة نسائية أقصر منِّي قامة.
ظلَّت والدتي وفيَّةً بتحجُّر لعطرها الخفيف، خفَّة سائغة للشَّامين ،.. وكلّما تموَّج منها نحوي، أتخيَّل Dino Ramos مُتكئًا على طرف طاولته، يَستعتِب الوفاء للتفاصيل ويكتب لها:
Et toi non plus, tu n’as pas changé
Toujours le même parfum léger
هذا عن عالم العطور وروائح أهل الجنَّة،..
أما عن عالم لخْنَزْ وروائح أهل النَّار.. فلم تعد الرائحة الآدمية مستساغة في التّداول اليومي، ولا تُقبل كحرّية شخصية،.. افرازات البشر من أبشع نفايات الطبيعة، ومن مُكدِّراتِ النِّعم في خريف انواكشوط، حين تتفوَّق عُدوانية على موتارْدْ الخامْرَه..
الروائح الآدمية تفصيلة متوحِّشة في أبجديات التَّمدن.. مُقرفٌ التّعايش معها، ومُوجع الصَّبر عليها حَرجًا..
معلوم أنَّ مخلوق هذه الأرض من أكثر الأحياء مُخاصمة للماء والطِّيب، يُعتِّق النّتانة فوق العفن، ولا يزعجه أن تَرتَع في عرقه اللزج وتتولَّع.. إلا من رَحم ربّك بسلوك نظافة تليد،..
ما بها النظافة؟، وما له العطر؟،.. عطر صيف خفيف رخيص، وقطعة صابون في لترين من الماء، توليفة مُنقذة، لا تزيد على ثمن بطاقة شحن لساعتين من الثرثرة،.. ثُم لنحرِّر الرائحة الزكية من دناسة شُبهة الإثارة، فأيّ فتنة تُخشى من رائحة بخَّاخ إبطٍ في هجير النَّهار وقت القيظ، الأكيد أنها إثارة امْعاگبه وشهوة مِتْعلگه!،.. ما ذنبُ من نتشارك وإياهم وسائل النقل، والمكاتب، والمدارس، والمساجد ومن يسلكون سُبل ربِّهم في الأسواق ؟..،..للنَّاس علينا حقّ استنشاق هواء مريح أو على الأقل مُحايد.. وإلاَّ، فما صَبرنا إلا بالله.
أصدقائي، يومكم من طِيبِ الخُزامَى والأوركيدْ.