في موسكو أصدرت المحكمة العليا الروسية حكماً بحل جمعية «مموريال» التي كانت تُعنى بالبحث في تاريخ روسيا الحديثة من منظور حقوق الإنسان والشعوب، في سياق إجراءات جديدة لكتابة تاريخ رسمي للدولة السوفييتية التي حكمت البلاد من سنة 1917 إلى نهاية 1991. وفي ما وراء طبيعة الحدث ذاته، يظل السؤال المحوري هو: مَن يكتب التاريخ؟
وهل من حق السلطات الرسمية تولي هذه المهمة التي تقتضي موضوعيةَ النظر والبحث وعدم التأثر بموازين القرار السياسي؟ ليس الإشكال بالجديد، فعلاقة كتابة التاريخ بالاعتبارات السياسية معروفة، منذ نشأة علم التاريخ في العصر اليوناني وارتباطه بظهور نظام المدينة الديمقراطية وما كانت تتأسس عليه من منطق الحوار العمومي والنقاش التداولي البرهاني، بحيث تكون الكتابة التاريخية تجسيداً للروح العقلانية التعليلية في تصورها للحدث وربطها للتحولات بسياقاتها وخلفياتها المحددة.
وفي التاريخ الإسلامي ظهرت كتابات الإخباريين والرواة منذ القرن الثاني الهجري متأثرةً بمناخ الصراع العقدي السياسي السائد أوانها بين الفِرق والطوائف، وكانت «مقدمة» ابن خلدون محاولةً لبناء «قانون» لتاريخ المجتمعات العربية الإسلامية على أساس موضوعي، بإظهار العلاقة المركَّبة بين البنيات العصبية والمحدِّدات العقدية والدينية في نشأة وسقوط الدول، في ما وراء الجدل المعلن في النصوص والتأويلات.
ما يميز العصور الحديثة، هو أن التاريخ الذي كان ينظر إليه بصفته علماً هش القاعدة الإبستمولوجية (ومن هنا رفض أرسطو إلحاقه بالعلوم اليقينية لكونه يتعامل مع الظواهر المتحولة الاحتمالية) أصبح أداة سياسية من أدوات التسلط والتحكم. في القرن الثامن عشر، تبلور مفهوم «التقدم التاريخي» في نطاق مقاربة زمنية غائية لتطور المجتمعات الإنسانية، بحيث يكون الزمنُ نفسُه محدِّداً حاسماً في «تحسن» الوضع الأخلاقي والعقلي للبشرية، حسب اصطلاحات مفكري الأنوار الغربيين.
ومن هنا القول إن حركة التاريخ تتبع قوانين ثابتة تسير غائياً في اتجاه تحرر الإنسان ورفاهيته وسيطرته على الطبيعة. وقد شكلت الماركسية الصياغة الأكثر قوةً وبروزاً لهذه النزعة التاريخانية، إلى حد أن الفيلسوف الفرنسي لويس التوسير اعتبر أن ماركس هو الذي اكتشف «قارةَ التاريخ» التي تعادل في الأهمية اكتشاف الرياضيات والفيزياء في مسار العلوم.
ومن هذه المنطلقات تحول التاريخُ من مجرد ممارسة معرفية أو نظرية إلى محور للنشاط السياسي والأيديولوجي، بحيث إن «حنة ارندت» كشفت عن العلاقة العضوية بين طبيعة الأنظمة التسلطية (التوتاليتارية) وفكرة تشريع قانون رسمي للتاريخ. فالحركة النازية في ألمانيا استندت في خطابها الرسمي على سردية تاريخية لوضع أوروبا والعالم تبريراً لمشروع الهيمنة الهتلرية على المجال الأوروبي في عمومه.
كما أن الدولة السوفييتية تبنت الاتجاه نفسَه بكتابة تاريخ رسمي للإمبراطورية الحمراء يبرر حالة الاستبداد القائمة ومطامح التوسع الخارجي التي تندرج في منطق التقدم التاريخي الحتمي. في عالمنا العربي تبنت الأنظمة الأيديولوجية القومية نفس النزعة التاريخانية التي كرست تاريخاً رسمياً للأمة، ينطلق من لحظة «الوحدة الأصلية» القائمة على الهوية المشتركة وصولاً إلى مخططات الاستعمار الأوروبي لتجزئة الوطن الواحد وتفكيك أوصاله. قبل سنوات، قدّمت بحثاً مطولاً عن اتفاقيات سايس بيكو بمناسبة مرور قرن على توقيعها، واكتشفت بعد طول مراجعة للوثائق التاريخية أنها كانت مجرد «أسطورة مؤسِّسة» في الخطاب الأيديولوجي العربي لكونها لم توقع وفق الصورة الشائعة ولم تنفذ عملياً، وإن كانت وفق التاريخ الرسمي العربي هي لحظة تقسيم الأمة وتوزيع أشلائها بين القوى الأوربية الكبرى. في سنة 1959، نشر المفكر القومي البارز قسطنطين زريق كتابه «نحن والتاريخ» الذي يشكل أول مقاربة نظرية مكتملة حول طبيعة الكتابة التاريخية وعلاقتها المطلوبة بالوعي الحضاري والقومي للإنسان العربي المعاصر.
وقد بلور زريق في الكتاب المذكور فكرتَه الأساسية حول ضرورة الجمع بين النظرة العلمية الموضوعية في كتابة التاريخ والرؤية الشعورية الثقافية للتاريخ العربي، من حيث هو وعاء القيم الحضارية للأمة ومادة وعيها الفكري والمجتمعي.
وعلى أساس هذه المقاربة، كُتبت أعمالٌ تاريخية واسعة اشتهرت منها كتابات جواد علي وعبد العزيز الدوري.. أسست لنظرية سائدة في البحث التاريخي العربي تتمحور حول مركزية الهوية الثقافية المشتركة للشعوب العربية في تشكل البنيات السياسية المتحولة في مسار التاريخ العربي.
لقد خضعت هذه المقاربة لمراجعات جزئية في السنوات الأخيرة بتأثير المدارس التاريخية الجديدة في الغرب، والتي قلصت أهمية «التاريخ الحدثي أو السياسي» وركزت على الزمنيات الهيكلية الطويلة وعناصر المتخيل والذهنيات (مدرسة الحوليات، النظرية البنيوية، النقد ما بعد الكولونيالي..).
بيد أن هذه المراجعات الإبستمولوجية التي انعكست إيجابياً في الكتابة التاريخية الأكاديمية لم تنعكس عملياً على الخطاب الأيديولوجي، فظل التاريخ الرسمي من مقومات الخطاب الأيديولوجي والسياسي للدولة في كثير من البلدان، ومن اعتبارات السيادة التي لا يمكن التشكيك فيها، إلى حد أن أحد الساسة الأوروبيين تحدث مؤخراً عن ما أسماه «ريع الذاكرة». وكما يقول المؤرخ الفرنسي بول فاين، فإن حب الأوطان غالباً ما يدفع للتضحية بالنفس في سبيلها، لكنه نادراً ما يوفر شجاعة الكتابة الموضوعية عنها.
*أكاديمي موريتاني