إبراهيم الدويري
حين أنهيت بسرعة فائقة ومتعة متجددة قراءة كتاب "حجر الأرض" للروائي والكاتب الأستاذ أحمد فال ولد الدين ألحَّ علي سؤال من "نكد الأكاديميا" يستفهم عن الحقل المعرفي الذي ينتمي له هذا السفر المكتوب في فترة قياسية بلغة عالية وأسلوب جزل عوَّد ابن الدين قراءه عليهما في كتاباته الأدبية والسياسية، وقبل القطع بإجابة يقينية عن هذا السؤال الملح باغتني استفهام آخر عن سر الإمتاع الذي يأخذ بالقارئ من البداية وحتى التساؤل الذي ختم به المؤلف كتابه عن مستقبل أفغانستان، وكان هذا الاستفهام المباغت جوابا لذلك السؤال الملح.
ذلك أن "حجر الأرض" على صغر حجمه النسبي تجاورت فيه حقول أدبية ومعرفية كل واحد منها يعد مصدرا من مصادر الإمتاع منفردا فكانت مجاورة غيره له إبداعا على إبداع؛ ففي الكتاب من السيرة الذاتية وتجارب الكاتب وتأملاته ما يشد القارئ شدا، وفيه من النفس الروائي سلاسة الربط بين أحداث متباينة وأماكن متباعدة وسبر أغوار شخصيات متنافرة، وفيه من أدب الرحلات غرائبية الواقع الأفغاني وثبات طالبان الأسطوري، وفيه من صنعة الصحافة جدة الحدث وثراء زوايا التناول وشمول الاستقصاء.
كما في حجر الأرض من التاريخ ما يعيدك إلى أمجاد خراسان وحواري بلخ وهمهات الهرويين وصلابة أهل قندهار، وربما يغوص بك الكاتب في تضاريس الجغرافيا السياسية وتشعبات العلاقات الدولية ثم يرميك بشعر لأعرابي تتبعه نظرية لفيلسوف التاريخ أرنولد توينبي أو بفصل يقارن بين نظريات ابن خلدون في العصبية ومحورية الدين فيها وبين تمحلات برنارد لويس التي جعلها اليمين الأمريكي إنجيلا منزلا لقتل الأبرياء واستباحة البلدان.
بذلك المزيج الثقافي المتشابك والمعبر عن المؤلف أبلغ تعبير يعيش القارئ متعة غامرة تبدأ كتابيا من عام 1979 حين تحركت دبابات الاتحاد السوفيتي لغزو أفغانستان وكان المؤلف رضيعا "ومنذ تلك اللحظة وأفغانستان ساحة حرب ومكايدة بين الإمبراطوريات"، ثم تمر بك المتعة إلى ذكريات فتى يافع قادم من أعماق صحراء المرابطين يواجه الحياة ومتاعبها في الغرب الأوسط الأمريكي ثم يجد نفسه فجأة في جلسات استجواب لعتاة الاستخبارات الأمريكية في "جنونهم الجماعي" بعد هجمات 11 سبتمبر التي فتحت أعين الأمريكان على مفجآت منها أن أرض أحلامهم قد تقصد لتحقيق "أحلام مرعبة"، فهناك عايش ابن الدين فصول الجنون الجماعي في المطارات والمساجد وصَمَّتْ قعقعات الحرب على الإرهاب أذنيه.
تتواصل مشاهد الإمتاع وفصول المغامرات فيجد القارئ نفسه وسط معمعان نهاية هذه الحرب الهوجاء بتغطية ابن الدين نفسه الذي صار نجما يزيد حضوره شاشة قناة الجزيرة ألقا، فكان ابن الدين وزملاؤه في الجزيرة يسبحون عكس تيار أمواج القوات الأمريكية والدولية والأفغانية المزدحمة على أبواب مطار كابول أملا في خروج آمن، بينما كان فريق الجزيرة يقاتل للخروج من المطار لتوثيق لحظة هزيمة إمبراطورية جديدة في أرض أدمن أهلها ذلك تفاجأوا بتكدس الجنود الأمريكيين وسط الجموع المحتشدة وبقرب مقاتلي حركة طالبان من أعداء الأمس.
ومظاهر الانهزام الأمريكي هذه نشطت ذاكرة صاحبنا التاريخية فاستعاد تاريخ أفغانستان مع هزيمة الإمبراطوريات بدءا من الإسكندر المقدوني وجنكيز خان إلى بريطانيا والاتحاد السوفيتي متوقفا مع حقيقة تاريخية لا جدال فيها وهي أن الإسلام هو الإمبراطورية الوحيدة التي لم يأفل نجمها عن بلاد الأفغان منذ وطئها الفاتحون الأوائل، وهنا يبدأ ابن الدين في رواية قصة الشعب الأفغاني مع الإسلام الذي صاغ عقول ووجدان الخراسانيين من قديم الزمان ثم شكل مع التقاليد القبلية البشتونية رؤى الشعب الأفغاني الحديث وفي الصدارة منه حركة طالبان.
في فصول المؤلف عن طالبان وقطب رحاها الملا عمر الذي سماه "حجر الأرض" تشبيها له بأبي مسلم الخراساني هادم دولة بني أمية ومقيم أختها العباسية حبر المؤلف أحسن ترجمة للملا عمر وشاها المؤلف بأخبار وقصص تروى لأول مرة عن أناس عايشوا الملا عن قرب، وحضروا مفاوضاته مع تركي الفيصل في شأن تسليم ابن لادن الذي أخبره الملا أن سقوط حكمه أهون عنده من تسليم مسلم مستجير به، لم بكتف ابن الدين بذلك وإنما ذهب بالقارئ إلى آخر اجتماع علني حضره الملا ثم إلى السراديب التي اتخذها "أمير المؤمنين" أماكن لاختفائه عن أعين العدو الذي اقترب منه مرارا لكن الله سلم، وتلك التي اتخذها محاريب لتبتله وسباحته في ملكوت الله، ويشير المؤلف باقتضاب إلى أن الصبر وقوة اليقين وطبيعة التضاريس والتقاليد هي الأسباب الكبرى في "سر صمود طالبان".
وكما ولج المؤلف في مقابلة مثيرة مع أحد شباب طالبان عوالم الجيل الجديد من الحركة ونفسيات المقاتلين في ساحات الوغى رصد لنا حيثيات المفاوضات الدبلوماسية التي خاضها المكتب السياسي للحركة بنفس طويل منذ 2008 في ألمانيا وحتى 2020 في الدوحة ليتضح أن رجال طالبان كما كانوا أقوياء في النزال الحربي كانوا أيضا أشداء في السلم.
في تساؤلاته عن مستقبل أفغانستان بعد أن استعادها الحماة من الغزاة، ولخبرته الثقافية بمخاطر تشويه الإعلام الغربي لخصومه لم تغب عن الصحفي أحمد فال هموم الصحافة ولا مخاوف الحقوقيين فقابل الصحفيات وساءل القادة الجدد عن رؤاهم تجاه المرأة ودراستها وعملها فلاحظ من أجوبتهم أن ثمة فرقا كبيرا بين طالبان القديمة والجديدة التي أمامها فرص كثيرة وتحديات أكثر في ظل إحجام العالم عن الاعتراف بحكومتها خوفا من أمريكا المهزومة.