يمثل التجديد في غرض المدح مأزقاً للشعراء، وهدفاً يصعب تحقيقه، مثل روح الغول، والنوق العصافير، وكاد أن يعدَّ غرضا عاكراً لكثرة النسخ واللصق والإيطاء والمحاكاة والاقتباس والالتباس، فنادراً ما تسمع نصاً مديحياً تطبيك معانيه، وتستهويك ألفاظه، وتطربك قدرة صاحبه على الجمع بين المعنى والمبنى، ومواءمة الشكل مع المضمون والموازنة بين الكم والكيف.
وقد انتخبت عدة نصوص من شعر الحسانية، حسب معيار موضوعي يتعلق أساسا بالجدة والجودة، وأخضعتها لمحك نقد الذائقة الشخصية، وأفترض أن أصحابها لم يسبقوا إليها فكلهم أبو عذر معناه ومبناه، ونظراً لما ترمى به الجهة التي أنتمي إليها من طول الكرة، فسأسلط الليلة الضوء على نص وحيد، محاولاً تحليل مضمونه، وإبراز مكنونه.
أولا: الأديب
صاحب النص هو الشيخ الأديب الأريب المختار بن دَادَّا، رحمه الله، شاع شعره وطار ذكره في اترارزة ولبراكنة ويتميز أدبه ببصمة خاصة، فالرجل جمع بين الشاعرية والذوق السليم وحفظ أمات لبتيت وروائع لبير، وتخصص في الأدب السياسي، حيث وظف ملكاته في سبيل الدفاع عن حقوق المواطنين المستضعفين وإيصال أصواتهم لأصحاب القرار والنفوذ في زمن الأحكام الشمولية، الذي لا يوجد فيه من الهواتف إلا هواتف عباد الله الصالحين. ويتفق الأدباء والشعراء والشَّعَّارْ في منطقة إكيد على تميز أدب المختار بن دادا، وجودة سبكه وحبكه وحسن خياطته، ولذلك فقد أصبح أدبه مما لا تتم الفتوة إلا بحفظه.
ثانيا: النص
وَتِتْ مَامُونْ - الطَّبْعْ أَجْنَاسْ-
حَدْ ارْكَبْهَ مَاهِ مَحْظُورْ
مَا تَبْلَزْ عَيْنِيهَا فِي النَّاسْ
وِابْلاَ حِسْ أُتِمْشِ بالشُّورْ
ثالثا: تحليل المضمون
عدل الشاعر عن المعجم التقليدي المستخدم في المدح والثناء، إلى المعجم الغزلي، وهذا الملمح الإبداعي هو ما شدني للنص ودفعني للكتابة عنه، فالشاعر راجل من أهل إكيد محافظ متمثل لقيم وشيم الزوايا، وقد عاصر العولمة، واستشرف التحديات التي تواجه المجتمع، ومأزق تغير المفاهيم، في ظل عصر السرعة والسماوات المفتوحة، فأضفى الأديب على سيارة السيد الكريم مامون بن اسلام رحمه الله، صفات المرأة الايكيدية المحافظة، واستهل النص بجملة اعتراضية حملها ما لا تطيق من المعنى، فكثافة عبارة "الطَّبعْ أجْناس"، تحيل إلى العديد من المعاني، ففيها تناص مع قول لبيد بن ربيعة: ولكل قوم سنة وإمامها، كما تشير إلى العديد من الأمثال الحسانية السائرة مثل: "اطْبِيعَ أخِيرْ من لَصْل"، و"الكرش اتخل السباغ والدباغ"..
كما مدح الأديب المختار موصوفه بتغليب البعد الأخلاقي على الكسب المادي، مشيرا إلى أن ركوب سيارته لا يشترط دفع ثمن التذكرة مقدماً، وهي عادة فاشية في أغلب دول العالم وبعض مناطق الوطن، رغم أن دفع الأجرة يجب أن يكون بعد تمام العمل.
من ناحية أخرى، فقد اختار الأديب ثلاث صفات من قاموس شيم الزاويات، صاغها بعناية ورتبها بدراية، بأسلوب لا حشو فيه ولا تكرار، فبدأ بوصف السيارة بعدم إزعاجها للمارة بأضواء مصابيحها، وهي عادة مستهجنة في بلادنا، ورغم شحنة المدح التي حملتها عبارة "مَا تَبْلَزْ عَيْنِيهَ فِي النَّاسْ" حيث تشير من جهة إلى أن الممدوح مستعد لنقل الناس في أوقات متأخرة من الليل، كما تشير من جهة أخرى إلى الضوابط العرفية للغة الجسد لدى المرأة في مجتمع الأديب، إلا أن مفارقة الضياء والظلام، تحيل إلى الموجود والمنشود، فالشاعر حمل النص بعداً نقدياً يشير لبعض التحولات الثقافية التي بدأت تنتشر في المجتمع فالحرة لا تسري.
أما الصفة الكاشفة الثانية، فهي عبارة 'ابْلاَ حِسْ" والتي تعد ميزة في السيارات، لأنها تشي بجدة المحرك، إلا أنها جاءت منسجمة مع الصفة التي سبقتها، فمجتمع الأديب لايحبذ كثرة الكلام للرجال أحرى النساء، فمذهبهم يقوم على الاختصار فخير الكلام ما قَلَّ ودَلَّ، وفي هذا السياق يأتي المثل السائر إِمُوتْ السَّارِكْ مَا اتْكَلْمِتْ العِزْبَ.
وختم الأديب كافه بإضفاء صفة مشي الهوينى على سيارة مامون ، مشيراً إلى استهجان المجتمع الايكيدي لكل ما يتعلق بالسرعة والتسرع، وقد جاء في الأثر إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وقديما جمعت العرب بين السرعة والندامة والتأني والسلامة، ولم نزل نسمع من حكماء البيظان أن "النَّيْثِ آفِّتْهَ الخِفَّ وادْكْيكْ آفْتُ السِّفَّ والمُرَاهْقِ آفْتُ الكُفَّ".
يعقوب بن اليدالي