سُئلَ القائد الألماني بسمارك عن أفظع الأحداث التي وقعت في القرن الثامن عشر، فأجاب: "إن المستعمرات الإنجليزية في شمال أميركا اتَّخذت اللغة الإنجليزية لغة رسمية"، وهو يعني أنه كانَ يتمنَّى أن تتَّخذ هذه المستعمرات، ذات الجاليات الألمانية الكبيرة، اللغة الألمانية لغة رسمية بدلا من الإنجليزية حتى يضمن ولاءها لألمانيا. ورغم إتقان بيسمارك لخمس لغات فإنه ظلَّ مُتشبِّثا بلغته، ذلك أن اللغة هي أهم ما يُميِّز الهوية الثقافية لأمة من الأمم، ويُحدِّد انتماء أفرادها. ومعظم الأمم تجمع بينها لغة واحدة تُشكِّل الرابط الأقوى بين أفراد هذه الأمة، فتوصف الأمة بلغتها وتوصف اللغة بأمتها، مثل الصينية والفرنسية والعربية والبرتغالية والروسية والإسبانية وغيرها.
تلقَّف الأميركيون هذا الدرس الإنجليزي، فمنعوا اليابانيين في معسكرات الاعتقال إبَّان الحرب العالمية الثانية من التحدُّث بلغتهم الأصلية باعتبارها "لغة العدو". في المقابل، رفضَ اليابانيون شروط الولايات المتحدة الأميركية المُتعلِّقة باللغة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مُتشبِّثين بلغتهم رغم تخليهم عن جيشهم ودستورهم، ذلك أن اليابانيين أدركوا أن ضياع الأمة مأتاه ضياعُ لغتها. واليوم، لا يزال الأميركيون من ذوي الأصول اليابانية يُعلِّمون أبناءهم لغتهم الأم رغم انتمائهم إلى موطنهم الجديد في الولايات المتحدة الأميركية.
قبل ذلك، وإبَّان الثورة الفرنسية، قدَّم الراهب غريغوار تقريرا إلى مجلس الثورة عن وضعية اللغة الفرنسية، فبيَّن أن أكثر من 6 ملايين من الفرنسيين القاطنين في الأرياف لا يتكلَّمون الفرنسية، واقترح مُحاربة اللهجات المحلية ونشر اللغة الفرنسية الفصيحة بدلا عنها. أما في فيتنام، فأطلق الزعيم الفيتنامي هوشي منه وصيَّته الشهيرة: "حافظوا على صفاء اللغة الفيتنامية كما تُحافظون على صفاء عيونكم، تجنَّبوا أن تستعملوا كلمة أجنبية في مكان بإمكانكم أن تستخدموا فيه كلمة فيتنامية". ولم يكن هوشي منه منغلق الثقافة، فقد كان يُجيد التحدُّث بثلاث لغات، ولكنه أدرك أن تعلُّم اللغات الأجنبية لا يكون على حساب اللغة الأم، وأنه لا يُمكن محو هذه اللغة أو التخلي عنها لأي سبب من الأسباب، فالتخلي عنها يؤدي إلى الذل، وهو ما انتهى إليه مصطفى صادق الرافعي بقوله: "ما ذلَّت لغة شعبٍ إلا ذلَّ".
صمام أمان
لذلك، فإن اللغة ليست أمرا ثانويا أو حِلية تفتخر بها الأمم قدر ما هي صمَّام أمن الثقافات، وهو ما فطن له الفرنسيون حين نقَّحوا دستور بلادهم عام 1992 لتصبح اللغة الفرنسية لغة رسمية، وأصبح ذلك التنقيح بوصلة السياسة الفرنسية، ومن تمظهراته حربها الدبلوماسية ضد الولايات المتحدة الأميركية أثناء مفاوضات اتفاقيات التجارة الدولية التي انتهت بفوز الفرنسيين من خلال فرض الاستثناء الثقافي وإدراج هذه القاعدة ضمن الدستور الموحَّد لدول الاتحاد الأوروبي.
ولا يُمكننا أن ننسى قانون توبون لحماية اللغة الفرنسية عام 1994، الذي ألزم القنوات التلفزيونية بدبلجة جميع البرامج الناطقة باللغة الأجنبية، فضلا عن موقف الرئيس الفرنسي جاك شيراك في مؤتمر قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل عام 2006، حين انسحب من قاعة المؤتمر بعد أن شرع غيرنست سبيلبرغ رئيس البنك المركزي الأوروبي في تلاوة التقرير باللغة الإنجليزية، وبعد أن سأله الرئيس شيراك: "بحقِّ السماء لِمَ تتكلَّم الإنجليزية؟"، فأجابه بأنها "لغة الاقتصاد العالمي"، ولم يرجع شيراك والوفد المرافق له إلى قاعة المؤتمر إلا بعد أن تحدَّث سبيلبرغ بالفرنسية.
لم تكن فرنسا الدولة الوحيدة التي ناضلت منذ التسعينيات لحماية لغتها القومية، بل إن الولايات المتحدة الأميركية نفسها رفضت عام 1994 قرار تعليم اللغة الإسبانية في المراحل الأساسية الأوَّلية في مدارس كاليفورنيا.
لغات ميتة ولغات حية
كانت الأمم الغربية حريصة على لغاتها، فإن الأمة العربية، التي تُشكِّل اللغة عاملا أساسيا في تكوين أبنائها على المستوى الثقافي والفكري والنفسي ماضيا وحاضرا ومستقبلا، ليست في غنى عن الاهتمام بلغتها لأسباب موضوعية ومصيرية. إذ يوجد ما يقرب من 300 مليون ناطق باللغة العربية في الوطن العربي، فضلا على مَن ينطقون بها في مناطق عديدة من العالم الإسلامي، وتسمح هذه القوة العددية بأن تُحافظ اللغة العربية على شرط التداول الذي يمنع أيَّ لغة من الاندثار، وتأتي العربية في المرتبة السابعة دوليا بالنظر إلى عدد المُتكلِّمين بها داخل المنطقة العربية، وفي رتبة أفضل بقياس انتشارها وحجم المُتحدِّثين بها حول العالم.
ولا شك أن ضياع اللغة مُنذِر بضياع هوية أية أمة، فهي وتدُ هويتهم الموحَّدة، لذلك تعتمد كل أمة على لغتها لتعزيز وجودها. وإذا ما نظرنا في تجارب أمم أخرى فإننا سندرك مدى التيه الذي تعيشه بسبب اختلاف اللغات، على سبيل المثال، فشل الاتحاد الأوروبي في تحقيق وحدة لغوية رغم نجاحه في تحقيق بعض أوجه الوحدة الاقتصادية والأمنية والسياسية، وهو ينفق ما يزيد على 40% من ميزانية مؤسساته الإدارية في الترجمة، ولا تواجه الدول العربية هذا الإشكال اللغوي، حيث تظل اللغة العربية هي لغة المبادلات التجارية والثقافية والتربوية.
ومن المفيد التنبيه إلى أن اللغات كما البشر لديها دورة حياة، تولد وتنمو وتموت أيضا. هناك لغات اختفت من الوجود بالفعل، وسيشهد القرن الحادي والعشرين انقراض ما لا يقل عن 3000 لغة، وتؤكِّد الإحصائيات أن العالم يشهد موت لغة كل نصف شهر، ويعني ذلك أننا نخسر 25 لغة في العام الواحد. يبدو ذلك رقما مُثيرا، ولكنها حقيقة مُرَّة، فقد استيقظ الكنديون على نتائج تقرير مُفزِع عام 1998، يُبيِّن أن مصير 47 لغة من بين 50 متداولة في البلاد آيل إلى الانقراض، وفي التسعينيات أيضا تفاجأ الأستراليون بأن هناك ما بين 70 إلى 90 لغة محلية لم تعد قيد الاستعمال، وخيَّم الوضع نفسه في أميركا الشمالية والجنوبية وأفريقيا، حيث تحتضر مئات اللغات، خاصة تلك التي يتكلَّمها عدد قليل من الأشخاص، فهناك أكثر من 548 لغة يتكلَّمها نحو 100 شخص فقط! هذا وتوصف اللغة بالميتة أو المُحتضِرة حين يتراجع عدد مُتكلِّميها أو يختفون، كما يمكن أن يكون الموت نتيجة انتحار لغة ما بعد أن يتخلَّى عنها أصحابها، فيهملونها ولا يعدونها جزءا أساسيا من هويتهم.
أمام هذه الأرقام المُفزِعة تصمد اللغة العربية مثلما صمدت على مرِّ العصور، ذلك أنها من أقوى لغات العالم وأثراها مفردات وأدبا، نثرا وأشعارا، هكذا كانت قبل الإسلام، وازدادت متانة باعتبارها لغة مُقدَّسة بها نزل القرآن العظيم، واتسع نطاقها ونطاق المَعنيِّين بها والحريصين عليها ليتجاوز أمة واحدة إلى كل الأمم التي اعتنقت الإسلام، فأصبحت اللغة العربية لديها لغة عبادة، وكتابها المُقدَّس لا يمكن فهمه حق الفهم إلا من خلال فهم اللغة العربية، وربما هذا من الجوانب التي تتميَّز بها اللغة العربية ولا يشاركها فيه الكثير من اللغات.
ثورة العربية.. وأفولها
يشهدُ التاريخ على انتشار اللغة العربية مع الفتح الإسلامي، وأُشير بصورة خاصة إلى المكانة التي حازتها اللغة عندما كان العرب في أوجهم في الأندلس، حيث انتشرت الجامعات والأدب والفن والموسيقى والمعمار العربي المميز، في وقت كانت فيه أوروبا تئن تحت وطأة العصور الوسطى وتعاني من الانحطاط وسيطرة الكنيسة، وكان رجال الملك والحكام والنخبة يرسلون أبناءهم للتعلُّم في الجامعات العربية باللغة العربية في الأندلس، وكان العلماء مثل ابن رشد والخوارزمي وغيرهم معروفين في أوروبا وشكَّلوا -فيما بعد- منطلقا لنهضتها. ولكن حين انتكست الأمور وسقطت الأندلس وبدأ عصر الاستعمار الغربي لدنيا العرب، تراجعت اللغة العربية، لأن ضعفها وقوتها مرتبطين بقوة وضعف أمتها، بقوتها تقوى، وبضعفها تضعف.
ومن أبرز علامات انتشار اللغة العربية وتأثيرها في لغات أمم أخرى ما ورد في دراسة بعنوان "عالمية الأبجدية العربية" من أن 164 لغة في العالم كتبت بالحرف العربي، ومنها الأوردية والفارسية والتركية العثمانية، والبشتو والبلوشية والدارية والأذرية والسواحلية، بل إن لغة مثل الإسبانية تقوم على 40% من كلمات المعجم العربي، ويُشير المستشرقان أنجلمان ودوزي في كتابهما "معجم المفردات الإسبانية والبرتغالية المشتقة من اللغة العربية" إلى أن اللغة البرتغالية تحتوي على ما يزيد على 3000 كلمة عربية، وليس أمر التأثير كميًّا أو شكليًّا، فمعنى احتواء اللغات على العربية يُحيلنا إلى أن أداة التفكير في هذه اللغات هي الثقافة العربية، فلا يُمكن انتزاعُ الكلمات من دوالِّها ومحمولها الفكري، وبذلك تصبح العربية، لغة وفكرا، مبثوثة في العقل الغربي، مثلما كان التراث العلمي العربي أساسا للكثير من العلوم الغربية.
ولكن للأسف، انقلبَ الأمر في العصر الحديث انقلاب علاقة الغالب بالمغلوب، وصار العرب يشعرون بضرورة تعلُّم لغة الغالب، وحلَّت التكنولوجيا وسيطر الغرب اقتصاديا وسياسيا على عالم العرب، وكشفت الحقبة الاستعمارية ما اقترفته القوى الباغية بحق ثقافات الشعوب، وتحديدا لغتها. ولعلَّ ما وقع في المغرب العربي من محاولات استعمارية لطمس الهوية اللغوية خير دليل على إدراك المُستعمِر لدور اللغة في تغريب الشعوب. ومن علامات تلك المحاولات ما قام به رئيس وزراء فرنسا كاميي شوطون في الفترة الاستعمارية بحظره استعمال اللغة العربية وجعل اللغة الفرنسية هي اللغة المعتمَدة في الجزائر. ولا أحد يُنكر تبعات الصراع اللغوي في الجزائر، وأثر اللغة الفرنسية في أجيال من الكُتَّاب والمثقفين.
بمرور الوقت، أصبحت القضية اللغوية شائكة أكثر بسبب تهافت العرب على تدريس اللغة الإنجليزية لأبنائهم بوصفها متطلَّبا من متطلَّبات التوظيف والتعامل مع التكنولوجيا. وفي حين استطاع العرب في الدول ذات الكثافة السكانية المرتفعة، كالسعودية ومصر والعراق وسوريا وغيرها، الصمود أمام تحديات اللغة نسبيا، فإن الوضع يختلف في دول محدودة السكان، كقطر والإمارات والكويت، التي قد لا تتجاوز نسبة مواطنيها 20% من عدد السكان، بينما ينتمي بقيتهم إلى كل دول العالم، لذلك تعالت الأصوات تُحذِّر من الخطر الذي قد تواجهه اللغة العربية في هذه البلدان.
إعادة إحياء العربية
لكن الصورة ليست قاتمة تماما، ودعونا هنا ننظر إلى ما حازته اللغة العربية في مجال الإعلام، فقناة الجزيرة التي تُعَدُّ من أهم القنوات العالمية أثبتت فاعليتها باللغة العربية، وهيَّأت السياق الإعلامي الجديد لظهور قنوات فضائية عربية لها تأثيرها، علاوة على الإذاعات الكثيرة التي تبثُّ بالعربية في قلب الغرب، وأقدمها هيئة الإذاعة البريطانية العربية "بي بي سي"، وإذاعة "مونتي كارلو"، وغيرها من الإذاعات التي تبثُّ من أوروبا أو أميركا أو أفريقيا أيضا، وتستهدف الجاليات العربية والإسلامية، وتحتل اللغة العربية فيها المرتبة الثالثة بعد الإنجليزية والفرنسية.
ونحن في قطر نحرص كل الحرص على انتمائنا العربي وارتباطنا بهذه اللغة التي تُمثِّل ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، ونشعر دولةً ومواطنين بالخطر الذي تتعرَّض له هذه اللغة العظيمة، وندرك أن علينا مسؤولية تجاه انتمائنا وتاريخنا لنتَّقِيَ المخاطر التي تواجهها اللغة العربية، خاصة مع انتشار الجامعات والمدارس الأجنبية التي اقتضتها مسيرة التنمية والتفاعل مع التطور العلمي والاقتصادي والسياسي الذي لا يمكن تجاهله.
ولذلك، أقدمت الدولة على إصدار قانون رقم 7 عام 2019، الذي يفرِض على الجميع الالتزام باللغة العربية في التعامل والاجتماعات، ويفرض عقوبات على مَن يخالف القانون. وهو قانون ممتاز، ومن شأن تنفيذه أن يساهم مساهمة فعالة في معالجة التحدي، ولكنه لم يُفعَّل تماما بما يجعله يُحقِّق هدفه.
ومن هنا كان من أوائل الموضوعات التي انتبه لها مجلس الشورى المنتخَب موضوع اللغة العربية، وقد دُعيت للاشتراك في الجلسة العامة المخصَّصة لهذا الموضوع، وبيَّنت بشكل قاطع أن اللغة العربية تُشكِّل أمننا الثقافي، وتجاوب الجميع مع هذا الطرح ووجد صدى كبيرا لدى الرأي العام في الإعلام بشقَّيْه التقليدي والاجتماعي، ولا يزال محل نقاش وحوار.
إن اللغة العربية بالنسبة لنا ليست مجرد أداة تواصل، بل هي هويتنا، وهي ماضينا الذي يختزن تراثنا وتاريخ أجدادنا، وهي لغة عقيدتنا التي لا تكتمل عبادتنا دونها، وهي مستقبلنا، ودونها نفقد ما يُميِّزنا وما يربطنا بماضينا، وهي حاضرنا الذي لا نوصف دونه بأننا أمة.
ومع ما أشرنا إليه من كون تأثير اللغة والثقافة العربية يتخطاها إلى لغات وثقافات عدة في العالم، فإن دعوتنا اليوم إلى المحافظة على اللغة العربية لا تعني بحال القطيعة مع اللغات الأخرى، فبخلاف أن تعلُّم هذه اللغات بات ضرورة تقتضيها التطورات العلمية والاقتصادية وتحوُّل العالم إلى قرية، فإن اللغات في نهاية المطاف كائنات حية تتفاعل وتتداخل ويتأثر بعضها ببعض، هكذا كان الأمر عبر التاريخ، وهكذا يجب أن يستمر.
إن القلق الذي ينتابنا تجاه لغتنا العربية والخوف من تأثير اللغات الأجنبية وخاصة الإنجليزية ليس قلقا مقصورا علينا، بل إن الفرنسيين والألمان والإسبان وغيرهم ينتابهم القلق نفسه، ويتَّخذون من الإجراءات ما يحافظ على لغاتهم من الضعف أو الضياع. ومنذ عام 1973 حازت اللغة العربية مكانتها باعتبارها واحدة من اللغات الرئيسية في العالم، ما يُلزم أهلها باستشعار أهميتها والمحافظة عليها. أما بالنسبة للجاليات العربية التي تعيش في الخارج، فإن عليها مسؤولية مُضاعَفة أن تدرك كل هذه الأبعاد للغة العربية، وتحرص على هذه اللغة العظيمة بتعليمها لأطفالها، لأنها تُمثِّل ارتباطهم بماضيهم، والتزامهم تجاه مستقبل أمتهم.
-
د. حمد بن عبد العزيز الكوّاري
وزير الدولة ورئيس مكتبة قطر الوطنية