د.سيدي أحمد ولد الأمير ـ باحث ومؤوخ
نشرتُ الأسبوع الماضي الحلقة الأولى من حلقات تستطلع وثائق الأرشيف الفرنسي المنشورة مؤخرا، وهي وثائق تشكل مادة مفيدة؛ إذ تسلط الضوء على جوانب من التاريخ الموريتاني، وقد نالت مقالتي هذه قراءة مستفيضة وتفاعلا مشجعا.
وقبل الدخول في المقالة الثانية المتعلقة باتفاقيات إمارة البراكنة مع الفرنسيين، أود أن أعتذر عن خطأ وقع في هذه المقالة الأولى، فقد ذكرت أن إمارة إدوعيش وقعت اتفاقية مع الفرنسيين في باكل بتاريخ 7 فبراير 1821م، وأن من وقعها من جانب إدوعيش هو: المختار بن اسويد أحمد باسم أبيه الأمير اسويد أحمد بن محمد أمير أبكاك، والصحيح أن الذي وقع الاتفاقية هو المختار بن امحمد شين، وقد وقعها باسم أخيه الأمير محمد بن امحمد شين، ولم توقع باسم ابنه الأمير اسويد أحمد. فالمعذرة على هذا الخطأ الذي دفعني إليه ظني أن الأمير محمد بن امحمد شين توفي سنة 1820 أي قبل توقيع الاتفاقية بسنة. وقد نبهني الباحث الحصيف محمد بن الدي بن بكار أن الأمر غير دقيق، وأن الاتفاقية وقعها المختار بن امحمد شين (الذي سيصبح أمير اشراتيت فيما بعد) في حياة أخيه الأمير محمد بن امحمد شين الذي توفي نهاية السنة التي وقعت فيها الاتفاقية متأثرا بانفجار كمية من دقيق البارود كان بين يديه وذلك بالصبيبير قرب المجرية.
ومن جهة ثانية فقد اطلعت على مقال رصين للدكتور غالي الزبير بعنوان: "شيء من التاريخ.. اتفاقيتا الجل 1886"، وقد نشره في موقع الأخبار بتاريخ 7 يوليو 2023، وقدم فيه الدكتور غالي ردا مهذبا على فقرة من مقالتي الأولى، وعرض نقاشا هادئا وحِجاجا علميا دافع فيه عن رأيه المحترم حول اتفاقية الجل الموقعة بين أمير آدرار الأمير العادل أحمد بن امحمد بن أحمد بن عيدَّه، وقد ساق حججه وعرض أدلته، فالشكر موصول للباحث المتميز د غالي الزبير وتفاعله الحيوي، وربما أعود في مناسبة قادمة لمواصلة هذا النقاش العلمي الهادف إلى تبيين قراءات للتاريخ، قد تبدو مختلفة في الظاهر، لكنها تسعى كلها لتوضيح زوايا بحاجة للتوضيح وتقديم مقاربات منهجية وتأويلات موضوعية.
ملاحظات أولية.. في سبيل فهم الاتفاقيات البركنية الفرنسية
نشرت وزارة الثقافة الفرنسية على موقع الأرشيفات القومية لما وراء البحار، ثماني اتفاقيات من بين الاتفاقيات الكثيرة التي تمت بين الإدارات الفرنسية المتعاقبة في سان لويس (اندر) وفي بودور (الگصيبة، وتسمى أيضا دَيَّه) وبين أمراء البراكنة. وهناك ملاحظات لا بد من سوقها قبل استعراض بعض هذه الاتفاقيات وتحليل مضمونها وشرح جوانب من سياقاتها كما فعلت في المقالة الأولى، وهي:
أولى تلك الملاحظات أن من أبرز ما يميز اتفاقيات إمارة البراكنة مع الفرنسيين أنها تعكس قوة أمراء هذه المجموعة، ودبلوماسيتهم الناجعة، وقدرتهم على تدبير ملف التجارة النهرية مع الفرنسيين تدبيرا ذكيا وحصيفا، يراوح بين حسن العلاقات مع الفرنسيين عندما يُحّسِّن الفرنسيون من شروط الاتفاقيات، وبين الحذر والتوجس عندما يبدأ الفرنسيون في مناورات من شأنها الإضرار بمصلحة البراكنة، وصولا إلى القطيعة والمناهضة حين يبدأ ولاة الفرنسيين في سان لويس بالتلكؤ في تطبيق بنود تلك المعاهدات بل وإظهار المعاداة الفرنسية للجانب البركني.
أما الملاحظة الثانية فإن الاتفاقيات التي بين أيدينا وقعت كلها في فترة أمراء أولاد السيد، ولم تنشر الوزارة الفرنسية اتفاقياتها مع الفرع الأميري الأول أولاد نغماش. ومعلوم أن إمارة البراكنة، وإن كانت انحصرت في أولاد عبد الله بن كروم بن ملوك بن بركني، إلا أنها كانت في البداية في ذرية نغماش بن اعلي بن امحمد بن عبد الله، ثم آلت إلى ذرية عمه السيد بن امحمد بن عبد الله. ونحن هنا أمام معاهدات أبرمت مع أمراء أولاد السيد بن عبد الله أي الفرع الأميري الثاني من أولاد عبد الله.
والملاحظة الثالثة أن هذه النصوص الفرنسية، على علاتها، فيها الكثير من الفوائد التي تخلو منها كتب التاريخ والحوليات الموريتانية. ومن أمثلة ذلك أن هذه الوثاق ونصوص التجار والإداريين الفرنسيين المصاحبة لها ذكرت لنا أن وفاة أول أمراء أولاد السيد وهو المختار بن آغريشي كانت سنة 1766م، وقد تولى الإمارة بعده مباشرة ابنه الأمير القوي امحمد، فهذا التاريخ انفردت به النصوص والوثائق الفرنسية. ومعلوم أنه مع الأمير المختار بن امحمد بن آغريشي وأخيه الذي تولى بعده الأمير سيدي اعلي ستأخذ هذا الاتفاقيات البركنية الفرنسية مسارا جديدا ومعنى آخر، أظهر فيه أمراء البراكنة حصافة وقدرة على المفاوضات، وأحيانا مواجهة مع الفرنسيين، حتى إن أحد أمراء البراكنة وهو المختار بن سيدي تم نفيه إلى الغابون أواسط القرن التاسع عشر كما سأشرح قريبا.
والملاحظة الرابعة هي أنه جرت عادة المؤرخين على اعتبار امحمد بن المختار بن آغريشي أول أمراء أولاد السيد، لكن الرجوع إلى النصوص الفرنسية والاتفاقيات الفرنسية البركنية نجد ذكرا مطردا لأبيه امحمد ولجده آغريشي، وتبين تلك النصوص أن آغريشي هو أول من مهد لهذه الاتفاقيات مع الفرنسيين ووسع نفوذ أمراء البراكنة على نهر السنغال، بل ودفع عن طريق دبلوماسية نشطة مجموعة من القبائل إلى الاستفادة من التجارة المربحة مع الفرنسيين، وكل ذلك تحت إشراف وتأمين أمراء البراكنة. وكان آغريشي واسمه امحمد بن سدوم بن السيد أول مذكور من أولاد السيد بن امحمد بن عبد الله في الوثائق الفرنسية. ومعلوم أن جيل آغريشي من الأمراء هم: امحمد بن هيبه بن نغماش، وهنون العبيدي بن امحمد الزناگي من أولاد امبارك وأخوه بهدل (شيخ آسكر أولاد امبارك)، وأعمر بن اعلي شنظورة بن هدي بن أحمد بن دمان، وعثمان بن لفظيل بن شنان بن بوبه ابن عمني، وبكار وأبوه امحمد من خونَ الأدوعيشي، فهؤلاء هم جيل آغريشي. ويبدو أن آغريشي قد سن سنة مع الفرنسين وهي أن الاتفاقيات المبرمة مع البراكنة لا يوقعها إلا الأمير أو من يفوضه الأمير من أبناء عمه أو من وزرائه.
والملاحظة الخامسة: هي أن أمراء البراكنة جعلوا من كبير قرية بودور (الگصيبة)، وهو في الغالب من عرقية التكارير، وزيرا للأمير، بحيث يفوضه الأمير في غالب الأحيان للتحدث باسمه مع الفرنسيين، وهو ما يعني أن هذه الإمارات قد وضعت أسسا للانسجام والتلاحم والعصبية بين العنصر العربي والعنصر الإفريقي في المنطقة، وهو أمر في غاية الأهمية. ومن أمثلة ذلك تعيين وزير أمراء البراكنة المختار انجاك مدة طويلة مفاوضا باسم أمراء البراكنة، وسأتحدث عنه لاحقا.
والملاحظة السادسة والأخيرة، هي أن هنالك عدة أماكن على طول نهر السنغال جعل منها أمراء البراكنة مراسي للتبادل التجاري مع الفرنسيين، من أبرزها مرسى لو كوك (L'escale du Coq)، وهو مرسى يقع غرب بودور (الگصيبة) على بعد 10 كلم، و"لو كوك" المذكور شخص بعينه وهو تاجر فرنسي من تجار القرن التاسع عشر تعامل كثيرا مع الإمارات الموريتانية، واشتهر تعامله معهم في مواسم بيع الصمغ. وفي قرية رِشَاطُولْ السنغالية التي تبعد 12 كلم إلى الشرق من مدينة روصو الموريتانية بنى التاجر الفرنسي لوكوك دارا جميلة في معمارها ذات صبغ أبيض يعلول، وتحيط بها بساتين خضراء يانعة؛ لذلك كان الموريتانيون يسمون رِشَاطُولْ "اندكوك" نسبة للتاجر المذكور، وذكر ذلك امحمد بن أحمد يوره الديماني في شعره:
كأنَّ ذُرَى دارِ "انْدَكُوكَ" ودَوْحَهَا *** يعاليلُ مُزْنٍ قد عَلَاهَا جَهَامُهَا
أوِ الغَادَةُ البيْضَاءُ تُكْسَى بخُضْرَةٍ *** وشُدَّ علَى غَيْرِ الجَبِينِ لِثَامُهَا
ومن مراسي البراكنة المشهورة مرسى يسمى في الوثائق الفرنسية "تيرييه روج" (Terrier rouge) ومعناه الأرض الحمراء، ويقع إلى الشرق من بودور (الگصيبة) على بعد 50 كلم، وقد سمي - حسب بعض المصادر السنغالية المتعلقة بتاريخ بودور - بهذا الاسم لوجود ربوة حمراء اللون قريبة من المرسى.
إمارة البراكنة.. دبلوماسية ناجعة واتفاقيات مربحة
أقدم الاتفاقيات البركنية الفرنسية الثمانية التي بين أيدينا كان قد وقعها الأمير أحمدُ بن سيدي اعلي بن المختار بن آغريشي مع الوالي الفرنسي بالسنغال اشمالتز (Julien-Désiré Schmaltz) في مايو 1819، وآخرها كان قد وقعها زعيم أولاد اعلي بن عبد الله: محمد ولد هيبة مع الفرنسيين في مايو 1881.
والواقع أن اتفاقية الأمير أحمدُ بن سيدي اعلي سنة 1819م إنما جاءت ثمرة لنشاط دبلوماسي ناجح وناجع قاده أولا والده الأمير سيدي اعلي بن المختار بن آغريشي وتابعه الأمير أحمدُ نفسه، وقد تمثل في إصلاح ذات البين بين الألمامي عبد القادر ومملكته التكرورية القوية وبين السلطات الفرنسية في سان لويس (اندر). وكان الفرنسيون مرتاحين غاية الارتياح لقدرة أمراء البراكنة على إقناع قادة الدولة الألمامية على الدخول في مفاوضات مع الفرنسيين، بل وعلى التوصل إلى اتفاق تعاون وتواصل بين الدولة الألمامية والسلطات الفرنسية في السنغال، وهو أمر كان مستبعدا لولا تدخل أمراء البراكنة حلفاء الدولة الألمامية، ولذلك خصوا أمراء البراكنة بإكراميات سخية ظل الفرنسيون يدفعونها حتى تولي الوالي فيدريب السلطة في سان لويس منتصف القرن التاسع عشر.
ومما يظهر عناية الفرنسيين بأمراء البراكنة وتقديرهم لجهودهم في بسط السلم في منقطة فوتا أن الوالي الفرنسي شمالتز ذهب بنفسه من سان لويس (اندر) إلى بودور (الگصيبة) ليوقع اتفاقية 20 مايو 1819 مع الأمير أحمدُ بن سيدي اعلي (أحمدُ الأول). وتدل هذه الاتفاقية من خلال موادها الثمانية على تقدير الفرنسيين العميق للأمير أحمدُ بن سيدي اعلي. لكن علاقة أحمدُ بالوالي شمالتز لن تظل حميمية؛ حيث أغضبت محاولة شمالتز فتح مرسى جديد للتجارة النهرية في باكل أمير البراكنة الذي يرى فيما يبدو أن ذلك قد يشكل منافسة لمرسى بودور، فبدأت علاقة الأمير تسوء مع الفرنسيين، حتى وقعوا معه اتفاقية ثانية في 25 يونيو 1821 والتي بين أيدينا منها نسخة، وهي من خمس مواد حاول الفرنسيون من خلالها ترميم العلاقة التي ساءت مع أمير البراكنة أحمدُ بن سيدي اعلي.
والأمير أحمدُ بن سيدي أعلي طابت مدة إمارته، وبلغت 23 سنة وهو الأمير الموريتاني الوحيد الذي سميت عليه باخرة شراعية، كما قال بول مارتي، وتحمل تلك الباخرة الشراعية اسم "الملك أحمدُ"، وقد ظلت تجوب البحار بين ميناء نانت فرنسا وبين الموانئ الإفريقية وذلك طيلة عقد استمر من 1840 إلى 1850.
وفي سنة 1842 سيوقع وزير أمراء البراكنة المختار انجاك وثيقة (من بين الوثائق التي نشرها الفرنسيون مؤخرا، انظر المرفقات) باسم الأمير امحمد الراجل بن المختار بن سيدي محمد بن المختار بن آغريشي. والمختار انجاك مع أنه كان وزير الأمير امحمد الراجل وقبله كان وزير أحمدُ بن سيدي اعلي. والمختار هذا ترجمان أو "أَمَلَازْ"، وهو لفظ من كلام أزناگه وأصله: "آمَچَّازْ"، وقد أبدلت الجيم الشديدة لاما وهي ظاهرة صوتية مطردة في الكلمات الحسانية ذات الأصل الأمازيغي. وقد أورد هذه اللفظة وترجمتها للفرنسية الحاكم الفرنسي لويس فيدريب في الصفحة 75 من كتابه عن هذه اللهجة. وكان المختار انجاك أو المختار ولد انجاك يتقن العربية والفرنسية وبعض اللهجات الإفريقية كالبولارية والولفية، وهو تكروري كان له دور بارز في إمارة البراكنة في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وقد ظل المختار انجاك ساعيا في تولي سيدي اعلي بن أحمدُ بن سيدي اعلي الإمارة، وقد قتله اخوه عبد الله انجاك يايعاز من امحمد ولد سيدي أمير البراكنة. وما إن تولى سيدي اعلي الثاني ولد أحمدو ولد سيدي اعلي السلطة حتى أمسك بعبد الله انجاك وقتله قصاصا. وكان الترجمان المختار انجاك كالملوك في أبهته وفي ثرائه، وقد تزوج القاضي والمحلف بمدينة اندر حماد آن بنته وهي أم كمب آن "كمبان" والدة أسرة أهل أبنو المقداد الشهيرة بمدينة اندر السنغالية. فالمختار ولد انجاك جد أهل ابنو المقداد من جهة الأمهات.
ونحن نتحدث عن اتفاقية الأمير امحمد الراجل مع السلطات الفرنسية لا بد أن نذكر أنه في هذه السنوات أي في بداية أربعينيات القرن التاسع عشر وفي سياق علاقة المد والجزر بين إمارة البراكنة وبين الفرنسين سيتم اختطاف الأمير المختار بن محمد بن سيدي امحمد بن المختار بن آغريشي الشهير بالمختار ولد سيدي أو المختار لسيدي. وقد تم نفيه إلى الغابون؛ لأن الفرنسيين وخصوصا حاكم سينلوي الفرنسي "بويت ويلوميز" (Bouët-Willaumez) لا يرغب فيه ويناصبه العداء. وقد تم سجن الأمير البركني في حصن "أومال" (Fort d'Aumale)، وقد اندثر هذا الحصن المنيع، وترتفع في مكانه اليوم كاتدرائية ليبرفيل.
وقد تولى المختار ولد سيدي الإمارة سنة 1841 بعد موت الأمير أحمدُ بن سيدي اعلي بن المختار بن آغريشي بمعية أولاد نغماش وأولاد منصور وجزء من أولاد السيد. لكن الوزيرين القويين انجاك المختار وببكر ولد خدج كانا مع الزعيم الطامح للإمارة البركنية محمد الراجل بن المختار بن سيدي محمد. وبدأت معارك بين الطرفين وتحالف كل طرف مع أنصاره. وقد أوقفت تلك النزاعات تجارة العلك مع الفرنسيين على الضفة البركنية فتدخل الفرنسيون في النزاع تدخلا لم يرض المختار بن سيدي فهجم على مدينة اندر يوم 27 يناير 1843 ونهب سفينة لتجار هنالك احتجاجا منه على نقض الفرنسيين لعهودهم معه، فتعقبه الوالي الفرنسي كايْ وتمكن من القبض عليه وسجنه في اندر. وفي نفس الفترة تم تعيين الوالي الفرنسي الجديد بويت ويلومز الذي أصر على أن الأمير المختار ولد سيدي كان يمنع قوافل العلك المتجهة إلى المراسي التي تشرف عليها فرنسا ويحاصر المراسي، بذريعة أن خصمه وابن عمه امحمد الراجل يسيطر عليها. كما أصر الوالي الفرنسي على أن المختار بن سيدي أغضب وأثار تجار وسماسرة العلك في اندر، وهو أمر لا تطيقه الإدارة الفرنسية. فقرر الوالي الفرنسي نفيه إلى الغابون الذي وقع للتو تحت السيطرة الفرنسية منذ سنة، وكان معه في المنفى بعض مقربيه.
وقد قام الأمير البركني المختار ولد سيدي بنشر الإسلام في منفاهـ فاسلم على يده بعض المواطنين الأفارقة الموجودين في المحتجز؛ لذلك السبب تعاون معه حراسه ممن أسلم على يديه في محاولة الهرب من الحصن في سبتمبر 1844 مع وزيريه وبعض مرافقيه وبعض من أسلم على يديه، لكن قبض عليهم ثم أعيدوا إلى الحصن في ظروف أشد وأعنف. وفي مارس 1845 التجأ بعض أقاربه إلى الإنجليز في غامبيا طالبا منهم السعي في إرجاع هذا الأمير المظلوم من طرف الفرنسيين، وهو ما لم يستجب له الإنجليز، ليقضي المختار ولد سيدي رحمه الله تعالى بعد ذلك في منفاه بليبرفيل التي أصبحت عاصمة الغابون.
اتفاقية امحمد بن سيدي هيبه مع الفرنسيين وسياقها التاريخي
أشرنا في المقالة الأولى عند ذكر الاتفاقيات التي وقعتها فرنسا مع أمير إدوعيش بكار بن اسويد أحمد كيف أن الأمير بكار استضاف في حيه أواسط ثمانينيات القرن التاسع عشر الزعيم الثائر عبدول ببكر زعيم بوصيابه التكروري، ومن كبار شخصيات منطقة فوته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد جمعته حلة الأمير بكار بن اسويد أحمد بزعيم جولوف علي بوري لاجئين عند إدوعيش.
وقد أغضبت استضافة الأمير بكار بن اسويد لهذين الزعمين الإفريقيين السلطات الفرنسية في السنغال ورأت فيه موقفا غير ودي من طرف إدوعيش، فهي تعتبر عبدول ببكر وعلي بوري عدويها اللدودين.
وفي سياق إحراج حلف بكار مع الزعيم البوصيابي عبدول ببكر قامت السلطات الفرنسية في السنغال بالتقرب من زعيم أولاد اعلي بن عبد الله محمد ولد هيبة الذي كانت علاقته سيئة بجاره عبدول ببكر قبل نفيه في حلة أهل اسويد أحمد (فعبدول ببكر ومحمد بن هيبه كلاهما له نفوذ واسع في مناطق فوته المحاذية لكيهيدي)، ووقعت فرنسا معه اتفاقية باكل في 22 مايو 1881، وهي من بين الاتفاقيات التي نشرتها مؤخرا الوزارة الفرنسية. وتنص هذه الاتفاقية من بين ما تنص عليه على منح الزعيم محمد ولد هيبه 1600 قطعة قماش من النيلة، وقد رفع هذه الكمية إلى ألفي قطعة لما تم تجديد هذه الاتفاقية في 13 أغسطس 1886، هذا فضلا عن المادة الثالثة التي تنص على امتناع محمد بن هيبة من مناصرة معارضي فرنسا في منطقة بوصيابة، وهو ما يوحي بأن أرادت من هذه الاتفاقية مزيدا من الضغط على عبدول ببكر اللاجي عند إدوعيش.
ويعرف زعيم أولاد اعلي بن عبد الله: محمد بن هيبه بأنه أحد أبرز الزعماء الموريتانيين في نهاية القرن التاسع عشر، وكان يشرف على مرسى تبكوت أو صالدي كما تسمى عند التكارير، وهو مرسى قريب من مدينة كيهيدي. كما تحالف محمد بن هيبه مع الأمير سيدي اعلي بن أحمدُ بن سيدي اعلي في حروبهما. ومن المعلوم أن الأمير سيدي اعلي قد زوج ابنه أحمدُ بالمومنة بنت محمد بن هيبه وله منها ابنه البطل المجاهد سيدي اعلي الشهير بلقبه ولد عساس، وهي أسرة مرضعه.
خاتمة
عكست اتفاقيات إمارة البراكنة مع الفرنسيين جانبا هاما من تاريخ هذه الإمارة العريقة، لعل أبرزه قوة نفوذ أمراء البراكنة في ضفة نهر السنغال وخصوصا في منطقة فوته، وكيف كانت علاقات أمراء البراكنة بالإمارات والزعامات الإفريقية قوية؛ بحيث استطاعوا في بعض الأوقات لعب أدوار دبلوماسية بين هذه الإمارات والزعامات الإفريقية وبين الإدارة الفرنسية بالسنغال. كما أسست إمارة البراكنة بحكم علاقاتها مع جيرانها لمجتمع متنوع ينصهر فيه العربي والإفريقي، وتتناصر مكوناته وتتحالف تشكيلاته.
كما أوضحت هذه الاتفاقيات كيف كانت علاقة إمارة البراكنة مع الفرنسيين تتراوح بين التقارب والتنافر، وبين التحالف والتحارب، وهو تقارب وتحالف جعل الفرنسيين يسمون إحدى سفنهم في القرن التاسع على أحد أمراء البراكنة وهو الأمير أحمدُ بن سيدي اعلي، وتنافر وتحارب وصل إلى حد نفي أحد أمراء البراكنة بعيدا إلى الغابون حيث قضى هنالك وهو الأمير المختار بن سيدي.
وتبقى هذه الاتفاقيات نصوصا محملة بالدلالة مشبعة بالمعاني، تغري الباحث بالغوص في كثير من المجالات المفيدة، وتتيح للمهتم أن يقدم قراءات تضيء زوايا هامة من تاريخنا السياسي والاجتماعي والتجاري.