الدهماء ريم
.........ا
انطلقتُ في سيّارتي، اخترقُ حواجز الزّمن صوب "ساحة الحرية"، كانت غايَتي الوُقوف على رصيف ذِكرياتٍ غابرة، تَغرفُ صُوَرها من نشأة الدولة، فقد نُصبت في الساحة لوحات مؤقتة تُبلغ عن معلومات تاريخية مُهمَّشة.
التحفتُ مَشاعر أدفأ قليلاً من شمس ذاك اليَوم تحت الغيْم، مَرَرتُ بين اللوحات، لاحَ لي الوجه المقصود فوق إحداها، فَفَردت جناحيَّ في الهواء بامتدادهما لأعانق صاحبه، تسلَّق قلبي في لهفة إلى لساني وهَتَف: يا مرحبًا، هذا أبي؟! .. لحظة كالدهر لملمتُ فيها مَجامع ما تشتَّتَ منِّي،.. فاستيقظت جزئياتٍ من خواطر متناثرة تشابكت بمخيّلتي..
وَضعتني اللوحة الصامتة في مواجهة دَمعي وعَصْفِ نَبضي، أسدلتُ يَدَيَّ!.، وأرسلتُ إليه من حَدَقتي جرعة حُبٍّ سخيّ،.. والحب مقامات.
على اللَّوحة صُورة نصف باسمة لرجل ناصع البياض، وُلِد في أقصى الشّمال، في تيرس الكبرياء، الصُّورة تَعلُو نَصًّا بالكاد نجح في اختصار رحلة عمره ومراحل عطائه.
مرَّرْتُ على الصّورة يدًا واجفةً، أتلمَّس أطيافَ روحه خلفها .. قبَّلتُها، قبَّلتُه، وحين اضمحلت المسافة بينيا، أفرجتُ عن عواطف أخرى متناقضة، منحبسة، كنتُ أحكمتُ الإغلاق عليها مُطوَّلاً، فشعرتُ بهشاشة مضنية.. ثم استدرت، ونزلتُ في فيْئِه لألتقطَ صورتي الأولى مَعه.
لم أعرف أبِي!،..لم أدَّفأ بين جناحيه، التقينا في الدنيا لقاءً خاطفًا، انفصلنا فيه في مُفترق طريق أبدي، فبينما كنتُ استلم نصيبي من الحياة، أوْ عُمري الآتي، كان أبي مُنسحبًا منها يُسلّم عمره المُنصرم للحُكم بالموت.
عرفتُ أبي من أثره، وممّن عاشروه، وعرفته من الأغيار بروايات متطابقة، فأصبحتُ أكثر قُدرة على معايشة حُضورهِ في غياّبه، وعلى بناء قُدوة مستحقَّة من طيفٍ لأبٍ احتلَّتْني ذِكراهُ ولن ألْقاهُ.. فوضعتُ رصيده الرمزي في الحسبان، أصونه حين ممارستي لحياتي واختياراتي، لشغفي وزهوي.
كان مُهابًا، عصاميا، عاليَ الأنفة، أنعمَ الله عليه بالثَّراء الوافر في فترة وجيزة، إذْ أُوتيَّ ذكاءً ماليًّا متقدمًّا، فوُلِدت أغلب أفكاره التَّجارية سليمة من أيِّ تشوّه، توسَّعت أعماله في السنغال ودخل في شراكات مع تجار وصناعيِّين لبنانيين فأثرى.
كانت موريتانيا يومها خديجًا مُدقِعًا من ولادة مُتوعّكة، وتحتاج مواكبة مادية لشَظَفِها المُعسر،.. فنُوديَّ على من يُحتَمل أن يُؤْمِنَ بها ويُؤَمِّن لها الكفاف، فاستجابت ثلة من التّجار أقل من أصابع اليد، كان والدي أحدهم، ورفضتِ الغالبية توجُّسًا على رأس المال،.. ومن وقتها بدأ مع هذه الغَبْراء سِفْرًا بلا نهاية، نهايته رحيله، فقد وَعَدهم بالعون وكان -بتوفيقٍ من الله- وعدًا مَفعولا.
أخذ من الحكومة المستغيثة زمام الحُلم، واجتاز به النهر شمالاً وأوصله سالمًا إلى فراغ اللاَّشيء (موريتانيا)، ثم غامر واستثمر عرق كَدِّه هنا، ووقف مع البلد الوليد ليُعزِّز ذاته.
تحمَّل والدي نَقْلَ أرشيف موريتانيا من السنغال إلى العاصمة الفتية، وأسَّس شركة لاستيراد المواد الغذائية تدعى TransAtlantic، وكانت له أول ممثلية في موريتانيا لتوزيع البنزين لشركة TEXACO، فتح مقاولات للبناء والتعمير من خلال مؤسسته SIMEX Transport et Logistique ، وبالتعاقد مع المؤسسة الفرنسية Colas-Bourdin et Chaussée ساهم في تشييد طريق روصو- انواكشوط، وانواكشوط - أكجوجت، وكان مساهما رئيسيا في شركة EGM-TP وتعريفها (Entreprise Générale de Manutention et de Travaux Publics) التي شيَّدت مسجد ابن عباس، وكان المساهم الأول بعد الدولة في أول شركة وطنية لتصنيع المنتوج البحري ( SOFRIMA) Société des Frigorifiques de Mauritanie في انواذيبُ، وعضوا مؤسسا ومساهما في شركة SONIMEX ، وعضوا مؤسسا في أول اتحادية للنقل، وجهَّز اسطول شاحنات يمتلكه لنقل المساعدات لمناطق معزولة في داخل البلد أيام كارثة الجفاف الذي ضرب موريتانيا في الثلث الأول من السبعينات.
اشترى عشرات القطع من ماله في لكصر ووزعها على أسر مازالت تسكنها إلى اليوم، وأنفق على تعليم العشرات، فقد كان ظَاهِرَ الفعل والذِّكر في مجتمعه الخاص، عامر المنزل ومحجة لتفريج الكروب.
في "ساحة الحرية"، غير بعيد مني، ترامت إليَّ همسات شباب من المتفرجين، يستنطقون بنبرات خافتة بيانات أبطال المعرض المغمورين، لم أدقِّق في تعليقاتهم فقد كانت همسًا يَرِدُ ويتلاشى، الأكيد أنهم لا يعرفون شخصيات اللوحات ولا يعنون لهم الكثير،.. فهم غُرباء استدعوا من ذاكرة النسيان الرَّسمي كشواهد على "ذاكرة التأسيس".. انشغلتُ عن الحضور بفرز تساؤلات صغيرة،.. لماذا أُهمِلت بعض فصول تاريخ "التأسيس"؟، هل لأسباب تصنيفية؟.. أم أنَّ تاريخه كُتِب بمشهد واحد؟، أم أُخضِعَ لمعيار واحد؟، أم هو تاريخ توليفيّ، توافقيّ، يُدني ويُقصي بتناقل انتقائي شِفاهِيٍّ؟،.. أمْ أنَّه ضاع كسابقه بين خُرافات خَوارق وتَخاريف ملاحِم من أساطير المتأخِّرين؟.. وإلاَّ، لماذا أزِيحَت منه مَشاهد كثيرة وراءً، إلى الخلفية المظلَّلة؟!..
كان الجواب المُرجَّح أنَّ والدي لم يُسجَّل في ذلك التاريخ الدِّعائي، لأنه لم يكن موظَّفًا،.. أيْ لم يكن من "جيل التأسيس الإداري"، الذي خُلّد اسمه نَظير خدمته للدولة مقابل راتب معلوم!.. أحسستُ أن ثَمَّة عَطَبًا بالذّاكرة الوطنية وبالذّات الجَمعيّة، وأنَّ الأنَا تَقُودُهما وتَعوقُهما..
هل كُرِّم والدي في حياته؟ .. الجواب: رمزيًّا نعم،.. فقد وشّحه الرئيس دَادَّاه بميداليات وطنية في الستينات، اعترافاً بجميل خدمته للدولة والأمة،.. ورغم بعض المطبّات والتّشنجات الحادة واللغة غير المشتركة بينهما حَول أحداث معروفة، احتفظَ له المرحوم المختار بعلاقة جوهرها الاعتبار.
هل كُرِّمت ذكراه كغيره؟.. الجواب: لا!..
• أطلق اسمه على شارع فرعي في لكصر قرب سجن "بَيْلَه"، أُبلِغْنا منذ سنوات بأرقام رمزه البريدي، وبالبحث الافتراضي يظهر فعلاً اسم والدي على خريطة الشارع الذي لم يُعَلَّم بلوحة تسميَّة حسب علمي، وبالتالي ظل شارعا افتراضيًّا أو وهميًّا، مع أننا على استعداد أن نتحمَّل عن البلدية تكاليف لوحة التَّسمية إنْ لم تكن ألغتها!
• نَظَّمت هيئة وطنية كبرى للمال والأعمال حفل تكريم لذكرى بعض رجال الأعمال الرَّاحلين من ضمنهم والدي، وسيظهر أنَّ التكريم يدخل في حملة دعائيَّة للهيئة، لا أزيد!،.. كان الحفل فوضويًّا بامتياز وجاهلاً بالمُكَرَّمين بشكل مُخلِّ ومُهين، فانسحب ممثل اسرتي تاركا درع التكريم لأصحابه ولحُكم التاريخ.. أثَّرَ الأمر في الشَّهم أحمد ولد حمزة (وكان حاضرا)، فأخذ على عاتقه تنظيم تكريم يليق بوالدي، لكن القَدر لم يُمهِله رحمه الله، فحسِبنا حميَّته النبيلة تكريمًا في حدِّ ذاته.
وماذا بعد؟.. ربما يَقرَأُ هذا المنشور مَنقُوص لَبَاقة من "جيل التَّبخيس"، تَشكَّل حديثًا في صورة خدعة هُلامية يُطلَقُ عليها اصطلاحًا "مُدوِّن"، فيتطوع بالتشكيك في المعلومات الواردة فيه،.. وربما يَتلهَّى بتفريق دَمِ صاحبها بين بُلدان الجوار فينسبه بجرَّة تعليق للبوليساريو أو للمغرب أو للسّنغال، باحثًا له - كالعادة- عن مَنْفَى لهويته أوعن جذورٍ لجنسيته، .. "انْعَمْ"، لا يَهُم!،.. فقد حَسِبتُ -دومًا- ذلك التَّجني العبثي المَهووس لَغَطًا تافهًا في وادٍ من التَّخلف الجاف ..
سرقني الوقت في السَّاحة، لم أشعر بانسلاله، ولا بالغروب وهو يقضم ظلي من خلفي.. وفي طريق العودة، ساحَ ذهني يَغزل صُوَرًا بطيئة، استحضرتُ خيوطها من أشياء من والدي في حوزتي: خطّه الجميل باللُّغتين، هوامش دقيقة في "آجاندا" تصفَّحتُها كثيرا، لائحة أسماء طويلة من القُرباء والغُرباء، كان لهم مُعيلاً ومُعينًا...
فيَا ذاكَ السَّلام بداخلي، عِمْ سَلاًما هَادئاً، لِي، لكَ، لكُلِّكَ، رحمة الله -بإذنه- تغشاكَ،..
سلامٌ منِّي على نُزُل أقمتَ به في "أبي الرّماح"، وسبحان من له الدَّوام.
تحياتي.
