تكثر في رمضان اليوم الانبعاثات الصوتية للواعظين لحد التَّلوث الضَّوضائي،.. أصوات دعوِيَّة تتدافع و تنحشر في مدخل القناة السمعية بتزاحم شديد،.. أصبحت آذاننا عاجزة عن هضم وتحليل الكم المَهُول الذي يصلها من كل منْ هبَّ ودبَّ..
على أعتاب كل رمضان أفتقد صوتًا كان يُقبِّل الأذن حنانًا ولطفًا وبجرعات سائغة.. صوْتُ العبْد الرّباني المغفور له محمد محفوظ ولد محمد الأمين، المرشد السابق بالإذاعة الوطنية.
داعية بنى مجده بالصَّبر على استنطاق النصوص في عزلة عن الضوء، .. اسْتَمال القلوب بالعذب المَتِين ،
لقد اجتاح وَهَجه خافقي مُذْ وعيتُ على صوته في الإذاعة،.. الصَّوتُ المفعم بالبراءة وراحة الضمير.. صوتٌ أبَويٌّ ينسل من شفتين في نصف ابتسامة أوْدعها وقار الدنيا،..
لقد فَرَد رحمة الله على روحه جناح العلم المُسْنَد بالحزم في وسطية عبر الأثير، وكان لعقودٍ زعيمًا لوحده و في هدوءٍ بما يقوم به العشرات اليوم في جَلَبة،.. وقد كان بحسَّانيته وعفويته وكلامه المُبسَّط أبلغ منهم لفظاً و أوْقَع كلامًا في القلب،.. هو "ماركة دعويَّة وطنيَّة"، خرجت من رحم السَّماحة بعِلمٍ عريض، زاهد في الدّعاية والمشيخة و مُطمئن لرصيده العلمي...
أفتقدُ صوته المُبْتهل بالدُّعاء بعد آذان الإفطار،.. و الذي كنتُ أحسّه دعاءً صادقًا من القلبِ و أحُسُّنِي مشمولة به فأنغرز في وعيي..
لقد ساقَ أشرعة قلوبنا نحو معرفة الله برياح محلية هادئة لا شرقية ولا شمالية، ظلَّ متمسكا بخطٍ ثابت، لم يَبعْ قولاً ، ولم يُسوِّق انفعالاتٍ مُبالِغة،.. ما كان محتاجًا في دعوته لإتقان مهارات التَّنقل بين الغضب والتألّم والضحك والصراخ و الدُّعابة والبكاء،.. تلك ليست دعوة، هي دعاية مسرحية لفاقد الشَّيء، و محاولة بائسة لتغطية النّقص العلمي بطرافة غالبا ما تتحول لمنافسة لإبليس في مهامه! ...
و كما يقول مالك بن نبي: « ليس هناك أقبح من الجهل حينما يتزيّى بزيِّ العلم وينبري للكلام ».
ويقول الكواكبي: « من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم »... كم كانت ستكون حسرة بن نبي و الكواكبي -رحمهما الله- لوْ عاشا لزمن دعاة "الواتس آب" الموسوسين باسم الله،.. جهلة يُجهِّلون الأمَّة بالخرافات في قالب مسرحي،.. و لا يحتاج جهلهم لكاشف بارع؟!
................
اللهم أرحم عبدك محفوظ الذِّكر، محمد محفوظ ولد محمد الأمين، وأرفع درجته في المهديين.. اللهم آمين.