حفيظة الفارسي
ما الذي يعنيه طرح سؤال الثقافة والتلفزيون على مجموعة من أبرز الإعلاميين والمعنيين بالبرامج الثقافية في الفضائيات العربية حول ممارستهم كإعلاميين للثقافة، أو حول ممارستهم كمثقفين للإعلام؟ وهل الفجوة بين الثقافة والفكر من جهة والوسائط الإعلامية الأكثر انتشارا كالفضائيات التلفزيونية من جهة أخرى، تزداد اتساعا ؟ أخذا بعين الاعتبار أن المجال الثقافي والفكري في العالم العربي يتضاءل يوما بعد يوم.
هذه بعض من الأسئلة والإشكالات التي يناقشها كتاب صدر حديثا عن منشورات ضفاف ببيروت، ومنشورات الاختلاف بالجزائر بعنوان» المثقف والتلفزيون: عن الهوامش الثقافية والفكرية في الفضاءات العربية» والذي أشرف عليه وقدم له الدكتور والباحث الموريتاني ورئيس مركز الأبحاث و الدراسات العليا ببروكسيل بدي المرابطي.
إن ما يكسب هذا الكتاب أهميته وفرادته، بالنظر إلى موضوعه، هو كونه يطرح رؤى وأفكار من داخل المطبخ الداخلي للبرامج التلفزيونية التي تشتغل على المادة الثقافية، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذه البرامج الثقافية غالبا ما ينظر إليها على أنها مقاومة لقبضة وتغول النموذج الإعلاني رغم احتكامها إلى إطار تلفزيوني يتحكم فيه نسبة المشاهدة أو ما يسمى بقانون المتتاليات المشهدية الذي يفرض على هذه البرامج دمج محتوياتها داخل مفردات السوق الإعلانية، وهو ما يدفعنا للقول بأن هذه البرامج تبدو مجرد استثناء، أو أنها تدخل في إطار الهوامش التي لا تخرج عن المتن أو القاعدة إلا لتؤكدها، أي أنها استثناء بقناع التمويه الذي يحاول أن يظهر ضمن الإطار لكنه خارجه أيضا. وبالتالي فالبرامج الثقافية هي مجالات مقاومة داخل المجال السمعي البصري أو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة أو يشرعنها.
هذه الرؤى والتصورات تم طرحها في لقاء سابق عقد ببروكسيل قبل جائحة كورونا، ناقش خلاله المشاركون (أحمد الزين: إعلامي وروائي ومقدم برنامج «روافد» بقناة العربية، احمد فرحات: إعلامي كاتب ومترجم وشاعر، عمر أزراج: إعلامي، كاتب وشاعر ومدير مجلة «مثاقفات»،الراحل حسن السوسي إعلامي كاتب وشاعر ومترجم، حسن مرزوقي: إعلامي وروائي ومنتج برنامج «المشاء» بقناة الجزيرة، حسين جواد قبيسي: إعلامي كاتب ومترجم،خالد الحروب: مدير مشروع الإعلام العربي في جامعة كامبريدج ومقدم برنامج «خير جليس» بقناة الجزيرة، عبد الباري عطوان رئيس تحرير صحيفة «رأي اليوم» و»القدس العربي» سابقا، عبير النجار: أستاذة بقسم الإعلام بالجامعة الأمريكية بالشارقة، فيصل جلول: إعلامي وكاتب وباحث، مالك التريكي: إعلامي وكاتب ومقدم برامج فكرية « فسحة فكر» في قناة العربي و»مسارات» بقناة الجزيرة، ياسين عدنان: إعلامي وروائي وشاعر ومقدم برنامج «بيت ياسين» في قناة الغد، و»مشارف» بالقناة الأولى المغربية) ناقشوا وساءلوا تجاربهم كإعلاميين في جلسة تفكير بصوت عال، بعيدا عن المعمل الأكاديمي، حيث يستأثر السياسيون والأكاديميون بمثل هذه النقاشات ، وحيث تهمش الثقافة العالمة في البلدان العربية لصالح الصورة والصوت وبرامج الترفيه والتسلية والخطابة كأدوات لترويج استهلاك الدعاية الرسمية ومعها المنتج الرأسمالي المعولم.
هذه النقاشات ضُمّنت في هذا الكتاب لتسمح باستئناف التفكير النقدي حول مكانة الثقافة والفكر في الوسائط الإعلامية المهيمنة، كما أنها تطمح إلى تحفيز الفكر النقدي العمومي حول مستقبل المشروع الثقافي والفكري في الفضاء التداولي العربي المشترك الذي أصبحت وسائطه الأساس هي الوسائط الإعلامية السمعية البصرية أو الرقمية، والتي من الضروري استثمارها عبر استيعاب التحولات الجذرية الحاصلة في المجتمعات العربية اليوم، والتي اجتزأت الحداثة وتقبلتها على دفعات في مستواها الاستهلاكي فقط الذي لا يتعارض مع القيم ولا يزعزع اليقينيات الجامدة دون أن تنفذ الى المستويات الأساسية للحداثة الفكرية والنقدية، ويزداد الأمر استفحالا مع نسبة القراءة المتدنية في العالم العربي.
الكتاب يطرح أيضا مسألة الرقابة في البرامج الثقافية، فالعمل تحت سقف ضاغط ومساحة حرية أضيق، يقدم معرفة ناقصة، ومشوهة أحيانا، ما يجعل الإعلامي يسير في حقل ألغام يحاذر فيه الوقوع في ما يثير حساسيات مع القنوات التي يشتغل داخلها، وعلاقة القنوات نفسها مع السلطة وهو ما يجعل المشتغلين على المادة الثقافية يُواجَهون في غالب الأحيان بمحاولات تحجيم أفق اشتغالهم عبر احترام بنود دفاتر التحملات خارج أي اجتهاد، بل هناك توجه عام لدى تلفزيونات الدول العربية يميل إلى اختزال الثقافة في الأدب وعزلها عن محيطها المجتمعي، وكل ما يعتمل فيه من قضايا اجتماعية وسياسية وفكرية.
هذه الرقابة، كما يشير الكتاب، قد تكون مستبطنة أي سلطة مستقرة في لاوعي الإعلامي نفسه والذي قد يعفي، أحيانا، السلطة السياسية من ممارستها عليه.
إن الرقابة بهذا الحجم تؤكد العلاقة الجدلية بين حقلي السياسة والثقافة، وتدفعنا ونحن نتحدث عن الرقابة على البرامج الثقافية في التلفزيون، إلى التساؤل: هل يمكن أن يكون الإعلام الثقافي خلوا من السياسة ومستقلا عن الإعلام السياسي؟ وهل يمكن الحديث عن إعلام خال من القيمة السياسية، وآخر يتضمنها؟
يجيب الكتاب عن هذه الأسئلة بكون الإعلام الثقافي، بالتحديد، لابد أن ينتزع لنفسه قيمة سياسية باعتبار المخول الوحيد لشحذ الوعي بدور السياسة في الثقافة، ولصعوبة الفصل في الإعلام الثقافي بين السياسي والثقافي لأن الفصل القسري بينهما يحكم على كليهما بالموت، ومن هنا خطورة الرقابة السياسية على البرامج الثقافية.
الكتاب يتضمن مداخلات قيمة للمشتغلين في إعلامنا الثقافي التلفزيوني، ممن خبروا إشكالات تسويق المادة الثقافية وإكراهاتها في زمن تسيدت فيه الصورة ، وتقلصت فيه مساحة الثقافة الجادة لصالح مثقف السلطة والمثقف الخبير، والمثقف الداعية.