بين سهول شمامة جنوبا وكثبان الذراع شمالا، نشأ صاحبنا حيث كانت أسرته تتنقل بين هذه الربوع كباقي أسر إدولحاج، فتنتجع في فترة الخريف في أرض گنار متنقلة بين آبار تنضله واتويديمه والتيدومات واحسي أيسَ ولميلح وانتديت وابريزة حمدي وانوار والملوصي والعرش... ثم ترحل شتاء إلى الجنوب بين بوندرينايَ وتكشكمب والطلحايه وتنيدر... ولد باب في شتاء سنة 1942، عند موضع يسمى "زلغمانه"، عند الطرف الجنوبي من منطقة "اتنيدر"، وتربى بين أسرة أهل حمدي، بيت العلم والصلاح والتقوى، وأسرة الأشماس، بيت الرئاسة في إدولحاج.
فوالده هو العلامة المختار بن باب بن أحمد بن باب بن حمدي بن المختار بن الطالب أجود، وأمه عائشة بنت سيد بن عبد الله بن محمذن بن امحمد "بوبوه" بن المختار بن الفاضل بن باب الشمس بن المختار بن الأمين بن النجيب.
كان باب هو الابن البكر لهذه الأسرة، وقد نشأ في سنوات الشدة والجفاف أيام الحرب العالمية الثانية، إلا أن تلك الظروف القاسية لم تمنع والديه من تربيته على ما عرف به مجتمعهما من الكرم والحلم والسيادة والسخاء إلى غير ذلك من أنواع مكارم الأخلاق، وعلى أيديهما تلقى معارفه الأولى من القرآن والسيرة والفقه والنحو والطب، وقد كانت والدته عائشة امرأة صالحة وطبيبة ماهرة وسيرية بارعة.
وقد كانت خير معين لوالده المختار في السراء والضراء، وخاصة في هذه الفترة الحرجة من تاريخ البلاد، فكانت تسهر على رعاية تلاميذه - الذين يزيدون على المائة أحيانا - كما تسهر على رعاية أبنائها، تداوي مريضهم وتطعم جائعهم وترأف بضعيفهم، وتلقن صغارهم مبادئ التهجي والقراءة والكتابة، كل ذلك بلطف ولين وبشاشة وبسمة دائمة وشفقة تامة، كما هو حالها مع باقي أفراد المجتمع، وقد نشر الله لها القبول في الأرض فأحبها الناس وأقبلوا إليها من كل حدب وصوب ينهلون من معين أخلاقها العذبة ويلتمسون الشفاء من يدها المباركة، فقد كانت مجربة النفع في دواء الأمراض المستعصية وقد يسر الله لها ذلك مع قليل الكلفة ويسير المشقة.
ولم يكن بيتها يخلو من الضيوف والزوار في وقت من الأوقات حتى آخر حياتها.
وقد كانت مواظبة على تلاوة القرءان والعبادة والذكر والصدقة وصلة الرحم، مع المسالمة والكف عن أعراض المسلمين وحب الخير لهم.
توفيت رحمها الله ليلة الخميس 26 مارس 2009 عن عمر ناهز 80 سنة ودفنت في "تكشكمبه"، تغمدها الله برحمته الواسعة، وأسكنها فسيح جناته، وبارك في عقبها وذويها.
تلقى باب القرآن العظيم على الحافظتين القانتين أم الخير وفاطمة ابنتي يامختارُ بن سيد بن امحمد الأمين بن باب الحاج، ثم صححه على والده العلامة المقرئ المختار بن باب وعرضه عليه مرات عديدة حتى حفظه متقنا مجودا، ودرس عليه أنظام العلامة أحمد بن محمد الحاجي في الرسم والتجويد والمقرإ، وأنظام العلامة محمد مولود بن أحمد فال، والبردة ونظم أمهات المؤمنين، كلاهما بشرح والده باب بن أحمد بن باب، ولامية الأفعال بشرح جده باب الكبير، والألفية بطرة الشيخ محنض باب بن اعبيد، وأغلب متون الفقه والسيرة والنحو والصرف والمنطق حتى أصبح مشاركا في جل الفنون، كما تلقى عنه ورد الشاذلية.
وتحتوي مكتبة الأسرة على كثير من هذه الكتب والأنظام بخطه الجميل الذي يشبه إلى حد بعيد خط والده المختار الذي اشتهر في المنطقة بحسن الخط، يقول العلامة القاضي عبد الله ابن امين في وصف خطه:
نظم تخلل شرحا رائقا حسنا ** قد خُط خطا جميلا جيدا أنقا
يقر بالرق كُتَّاب الأنام له ** كأن كتابهم كلا له عتقا
ترى ائتلاف اختلاف في السطور به ** حلي الطروس موازى الوضع متسقا
عليه نور يحاكي في تألقه ** نورا على الطلعة الغراء مؤتلقا
كأنما هو مرآة لناظره ** فيها يرى من رآها ذلك الخلقا
مكث مع والده المختار ينهل من معينه، وقد فتح له ذلك فرصة الاستفادة من علماء ربطتهم صلات وطيدة وعلاقات خاصة بوالده مثل العلامة المؤرخ المختار بن حامدن، الذي كان يعرض عليه بعض بواكير إنتاجه الشعري، ونافع بن حبيب بن الزايد، واباته بن أحمدو بن حامد والمحجوب بن أحمدو والقاضي أحمد سالم بن سيد محمد وغيرهم.
بعد إكمال دراسة المتون المحظرية المتداولة، ذهب باب مع والده إلى السنغال وغامبيا لممارسة التجارة هناك ولتعميق دراسته عليه، ثم التحق بالنظام التربوي الحديث، حيث كان والده يزاول التعليم فيه كمدرس للعلوم العربية والإسلامية في عهد الحكم الفرنسي وبعد الاستقلال.
انتسب باب لمعهد بوتلميت للعلوم الإسلامية والعربية، سنة 1964، مما أتاح له فرصة الدراسة على نخبة من علماء البلد البارزين مثل العلامة محمد عالي بن عدود وابنه محمد يحي، والعلامة محمد بن أبي مدين وغيرهم من الأجلاء.
ثم تقدم لمسابقة المعلمين في بداية السبعينات، فتم اكتتابه وزاول التعليم في عدة مناطق من الوطن.
ثم التحق بالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية (شعبة الأساتذة)، 1979، وهناك درس على أعلام آخرين مثل العلامة محمد سالم ولد المحبوبي، ومحمد سالم بن عدود، والعلامة محمد يحي بن الشيخ الحسين، والعلامة إسلم بن سيد المصطف.
يقول عن أستاذه محمد سالم ولد المحبوبي: إنه من حَبَّبَ إلي علم الأصول، وهو من أرشدني إلى اقتناء "إرشاد الفحول" للشوكاني من أجل التوسع في مباحثه.
حصل على شهادة الليصانص من المعهد العالي، وكانت رسالة تخرجه بعنوان: "اللغة العربية ووجوب تعلمها على المسلمين".
عُرف بشغفه الشديد بالمطالعة، وبسببها اكتسب ثقافة واسعة، وقرأ لِجُلِّ أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، وفي مقدمتهم: الإمام حسن البنا، والأستاذ أبو الأعلى المودودي، والأخوان سيد ومحمد قطب، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ يوسف القرضاوي، والأستاذ سعيد حوى، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، وغيرهم كثير...
غير أن قراءته لهؤلاء ولغيرهم من الأعلام؛ لم تجعله ينتمي إلى التيارات الفكرية لأصحابها، بل أخذ من كل جماعة أحسن ما عندها، وحافظ على علاقة حسنة مع الجميع من إخوان وسلفيين وتبليغيين ومتصوفة.
وقد أتيحت له فرصةُ منحةٍ دراسية إلى دولة الكويت، مع دفعة تضم، الوزير السابق المرحوم الرشيد ولد صالح، وصديقه والمشرفَ على رسالة تخرجه فيما بعد، بوميه بن ابياه، إلا أن والده المختار رفض سفره خارج الوطن.
زاول التعليم كأستاذ للعلوم العربية والإسلامية في عدة ثانويات وإعداديات في العاصمة وفي الداخل، ثم استقر به المقام في ثانوية روصو، حتى تم تحويله سنة 1997 إلى إعدادية المجمع الثقافي الموريتاني في دولة غامبيا، فبقي فيها حتى تقاعده في يناير سنة 2005 حيث عاد إلى الوطن.
تولى الإمامة والخطابة في جامع دار البركة (14 كلم شمال روصو)، بالإضافة إلى التدريس في محظرة الأسرة، والإرشاد وإصلاح ذات البين، حتى أقعده المرض في السنوات الأخيرة فاستقر به المقام في انواكشوط، نسأل الله أن يشفيه ويطيل عمره في صحة وعافية في الدين والبدن والأهل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وكان على علاقة حسنة مع كافة المجموعات والشخصيات في المنطقة، يميل إلى العزلة والتواضع والمسالمة وعدم الظهور، وقد كان بحكم البيئة شاذلي الطريقة من فرعها الناصري، حيث تلقى الورد الشاذلي عن والده المختار، وهو ورد أسرته كلها، فالتزم به في خاصة نفسه ولقنه فيما بعد لبعض الخواص، وهي طريقة تعرف بطريقة العلماء، ومن شروط تلقيها تقوى الله العظيم والوقوف عند أمر الله تعالى ونهيه، وتتميز عن الطرق الأخرى بعدم وجود مراسيم، ولا التسمي بالشيخ بل بالمرابط، وعدم التميز بين الناس بشيء، وإيثار ظاهر الشريعة واتباع السنة، للتحلي الشخصي بالفضائل الإيمانية ومراقبته سبحانه وتعالى في جميع الأمور، والتخلي عن الرذائل الظاهرة والباطنة بصفتها مهلكات، وعدم التعصب إلا للسنة والشريعة، وحسن الظن بجميع المسلمين، وعدم التشوف للكرامات، بل كرامتهم التي يرجون هي النجاة بطرقها المعهودة، ما يمحو الذنوب ويثبت على الطاعة ويرجى به حسن الخاتمة.
مارس قرض الشعر في شبابه ثم هجره في سن الشيخوخة، ويغلب على شعره غرض الرثاء، مع بعض شعر المناسبات. ونورد هنا نماذج منه. قال في رثاء العلامة القطب بن السالك المتوفى سنة 1977 دفين تنضله، رحمه الله:
ألا ليس باق غير مبدي الخلائق ** وليس قديما غير ربي وخالقي
ولا دائما إلا معيدهم غدا ** ليوم بوعد للقيامة صادق
وليس مريدا في الحقيقة غيره ** وما إن قضى أمرا يعاق بعائق
فسبحانه نرضى بكل قضائه ** سواء حلا أو كان مرا لذائق
على أن بعض النازلات كوارث ** ينوء بها صبر الصلاب العمالق
كنعي الأجل قطب كل كريمة ** وقطب زمانه وقطب السوامق
وقطب رحانا من تهون نفوسنا ** فداء له لو كان يفدى بناطق
بكته لنا مقل كأن سجومها ** تواكيف مطلال من القطر وادق
وحق لعين فارقت مثل قطبنا ** عمى ولقلب أن يسام بفاتق
بكى العلم والحلم التليدان رزءه ** وأمسى طريق القوم عاف لطارق
فمن لعويصات المعارف بعده ** ومن للعطا والجود عند المآزق
عليه من الرحمن سقي كطبعه ** وتوجه من نور حسن ببارق
وثواه في أعلى الجنان منعما ** بأسمى مقام بالرضيين لائق
فهو جماع الخير طرا وأهله ** ونافي الضلال والشرور البوائق
ونحمد مولانا إذ السالك الفتى ** على نهجه بل سابق كل سابق
أخ للنبوغ والذكاء مؤدب ** بسبل المعالي والعلا جد حاذق
فلا زال مكلوءا بحفظ يحيطه ** من الله في عيش مديد ورائق
وصلى إله العرش بعد سلامه ** على خير مسبوق وأفضل لاحق
وقال في رثاء عمته فاطمة الزهراء بنت باب المتوفاة سنة 1970 دفينة تنضله، رحمها الله تعالى:
أيجدي الحزن إن هجمت حلاق ** وهل يغني البكاء من الفراق
فليس لأمر خالقنا مرد ** إذا يقضي قديم جل باق
تصرف في أمور قد براها ** وأخضعها لسير واتساق
وقد خلق الحياة لنا ابتلاء ** كذاك الموت دائمتي سباق
يُرى طعمُ الحياة اليوم حلوا ** لمكفوف البصيرة والمآقي
عسى الأخرى تكون ألذ طعما ** وفضل الله أحرى وهو باق
وعند الله للأتقين خير ** وفوز خالدان بلا فراق
لذاك اختيرت الزهرا للاخرى ** ففازت باللقاء وبالسباق
فغاب بفقدها صبري وعقلي ** وصار القلب مني ذا احتراق
كما غابت مآثر ليس تنسى ** لها لا يرتجى منها التلاقي
تغمدها العلي برضى ونعمى ** وهون في الحساب لما تلاقي
سقاها وابل الرحمات مزنا ** يعم قبور تنضله البواقي
وعوضها وعوضنا برحمى ** وفردوس بجنات رواق
صلاة مع سلام من إلهي ** على سار وراق بالبراق
وقال في رثاء خاله الشمس محمذن أغربظ بن المختار بن محمذن أغربظ بن أحمد ميلود، المتوفى سنة 1966، دفين اندر في السنغال، رحمه الله:
إذا حم القضاء من القدير ** فما للعبد من لدة ظهير
يموت العالمون بلا خلاف ** وما من ذاك من عمل مجير
إذا ما الشمس تم لنا سناها ** وخلنا الوقت من زمن السرور
أزار الليل موكبه حمانا ** بفقد الشمس والقمر المنير
وعم العالمين عظيم رزء ** بموت الشمس والعلم الكبير
محمذٍ اغربظْ حسنِ الخلال ** وشيمته العوالي من الأمور
جواد ما يماثله جواد ** سوى أجداده السلف الشهير
حمى مجدا لهم حسنا قديما ** وأجلى سنة الحسب الفخير... إلخ
كتب باب عدة فتاوى وتقاييد مختلفة توجد في مكتبة الأسرة، وسنذكر بعضها هنا:
- رسالة بعنوان: "وجوب تعلم اللغة العربية على المسلمين" وهي رسالة تخرجه لنيل شهادة الليصانص من المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، وقد احتوت مباحث فقهية وأصولية ولغوية هامة.
- رسالة عن تاريخ محظرة الأسرة ودورها الروحي والتربوي، وهي في الأصل محاضرة ألقاها في مدينة روصو تحت عنوان: "التعريف بمكتبة أهل المختار بن باب بن حمدي" شارك بها في المعرض الوطني للكتاب الذي أقيم في مدينة روصو خلال الفترة من 19 إلى 23 يوليو 1997 م.
- القول الأسد في أصول أهل الطالب أجود، وهي رسالة في نسب الأسرة، أملاها في السنوات الأخيرة على ابنه الشمس وكلفه بتحقيقها وتخريج ما ورد فيها بالرجوع إلى المصادر المعتمدة.