كنت وما زلت مثل غيري، أفرح بالانتصارات الفردية للأشخاص، في ظلّ التردي الهابط للدول، فتألق لاعب/ لاعبة أو أستاذ جامعي/ أستاذة، أو كاتب/ كاتبة، أو طفلة/طفل، في مجال ما، يعطينا أملًا بأن الحياة ما زالت على قيد الأمل؛ فبعض هذه الانتصارات الصغيرة تكون مصدر إلهام لعدد كبير من البشر، لكن أمرًا كهذا لا نحسّه نحن، وحسب، ففي كل مكان في العالم، سواء كان هناك التردي أو الصعود، فإن الإنجازات التي يحققها الأفراد يتمّ الاحتفاء بها إنسانيًا ورسميًا وأدبيًا وفنيًا، ويغدو هؤلاء أيضًا مصدر إلهام لمئات الآلاف، بل للملايين أحيانًا، في كل بقاع الأرض.
ولذا يحق لنا أن نفرح بما لدينا، وربما بصورة مضاعفة، مع أن أفراحنا هذه تظلّ مجروحة وثمة دموع كثيرة عالقة بأهدابها بسبب وضعنا العام.
مناسبة هذا الكلام، الذي لم يعد بحاجة لمناسبة، هي الصورة المظلمة التي تصعقنا حين يطلّ أحد هؤلاء الذين غنينا لهم واحتفينا بهم بمواقف لا تكسر الأمل وحسب، بل تطلق النار عليه مستخدمة نيران أعدائنا.
هذه اللعنة التي تقصف قلوبنا نراها في فنانين احترمناهم ذات يوم، مثل المخرج زياد الدويري الذي وصلت به الحال معلنًا أنه سيكون العدو الأول لحركة مقاطعة الكيان الصهيوني، وأنه سيخرج فيلمًا مضادًا للحركة. والحقيقة أنه لو جلس خمس دقائق في أي ركن من أركان الكرة الأرضية متصفّحًا مواقع الإنترنت لتبين له أن عليه أن يكون أكثر تواضعًا، لأن معركة لم ينتصر فيها الكيان الصهيوني وكل حلفائه، لن يستطيع الانتصار فيها.
هيفاء المنصور، المخرجة السعودية، التي احتفينا بفيلمها (وجْدة)، لا باعتباره فيلمًا جيدًا وحسب، بل لأن الذي قدمته امرأة، عام 2013، بما يعنيه ذلك من سعادة بإنسانة قررت أن تعمل وتنتصر على الواقع الذي ترزح تحته النساء في بلادها. لم نستقبل الفيلم باعتباره حدثًا فنيًا، وهو كذلك، بل استقبلناه كفعل حرية أيضًا؛ ولذا ما إن سمعنا عن قيامها بإخراج فيلم يتناول حياة مؤلفة رواية فرانكيشتاين، حتى غمرتنا السعادة فعلًا، فها هي مخرجة عربية قادرة على أن تحقق نصرين متتاليين، على المستويين العربي والعالمي.
لكن فرحتنا لم تكتمل، بحيث يمكننا أن نتساءل: هل أخرجت هيفاء فيلمها وكذلك الدويري أفلامه، عن وعي حقيقي وتمرّد وفهم لمعنى حضور الإنسان في الفن وحضور الفن فيه، أم أن ثمة مرجعًا تقنيًا رافعًا وقف وراء هذه الأعمال؟ فقبل أن ينتهي عرض فيلمها العالمي في صالات السينما، خرجت علينا بتصريح لم يكن أقل من نكبة لفكرة الفنان عن الفن، وفكرتنا عن الفن، وفكرة المعنى العميق لما هو ضميريّ وإنسانيّ وجماليّ:
«لا مانع لديَّ من العمل مع زملائي الإسرائيليين وفق قنوات رسمية» (زملاؤكِ في ماذا؟!)، تصريح هيفاء جاء قبيل عرض فيلمها في القدس، كأنها تشق له الطريق في العقلية الصهيونية العنصرية لتحتفي بالفيلم وبها، وتقنع شركات الإنتاج، وراءها، بانحيازها لهذا الكيان الوحشي.
إن قراءة سريعة لـ (تغريدة) هيفاء، مع أنني لا أعرف كيف يمكن أن نُطلق على مثل هذا الكلام: تغريدة، وننسبه إلى الطيور؟! إن قراءة سريعة جدًا لما كتبتْه هيفاء، لا يذكِّر المرء إلا بانتظار تشريع بيع الجسد، أو تشريع ممارسة الخيانة. والحقيقة أن التشريع هنا ليس جوهر المسألة، لأن جوهرها قائم في انتظار البعض على أحرّ من الجمر صدور التشريع، لكي يمارسوا ما يتمنون ممارسته في قرارة أنفسهم؛ وهو بالمناسبة هنا ليس تصريحًا بإنتاج الأفلام، بل هو تصريح يبيح قتل الفلسطينيين!
على صعيد آخر، يفاجئنا روائي مثل تركي الحمد، صاحب الروايات والكتب الفكرية، التي وجدت صدى طيبًا في نفوس عديد من القراء العرب، بما يلتقي مع تمنيات هيفاء.
يُعلّق الحمد على المجزرة التي نفّذتها إسرائيل في قطاع غزة يوم الإثنين، الرابع عشر من تموز/يوليو الماضي، ضد مسيرة العودة في تغريدة (أيضًا تغريدة!) على حسابه قائلاً: «لو كانت مقاومة حقة للاحتلال لما تأخر أحد في الوقوف معها، كما يقف المرء مع صاحب الحق في كل مكان، ولكن أن يكون كل ذلك مناورة إيرانية تنفذها حماس على حساب أطفال غزة، فذاك أمر مرفوض.. وستبدي لكم الأيام ما كان خافيًا».
لقد تعامى الحمد عن وطن سُرق، اسمه فلسطين، ومئات الآلاف الذي استشهدوا وسجنوا وعذبوا، وملايين شرّدوا، ومجازر ارتكبها هذا العدو الصهيوني، قبل حلف إيران وحماس! بل قبل مولد حماس بعشرات السنين، ومن الغريب أن التاريخ لم يُبدِ للحمد خافيًا، لم يعد خافيًا، منذ سبعين عامًا على الأقل! أما الأغرب فهو عرض هيفاء والحمد والدويري أنفسهم في مزاد الصهيونية، في وقت تتخذ فيه ممثلة ومخرجة إسرائيلية أمريكية، فائزة بالأوسكار، هي ناتالي بورتمان، موقفًا نقيضًا لموقفهم، وترفض أن يتم تكريمها بـ (النوبل اليهودي) في دولة القتلة، احتجاجًا على المجازر التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني في غزة.
يحقّ لصحيفة «يديعوت أحرونوت» الصهيونية أن تحتفي، كما فعلت، بتغريدات! الحمد، فهناك في هذا الكيان المتوحش، فقط، يمكن أن يُطلَق على مثل هذا الكلام (تغريدات) وعلى تغريدات هيفاء أيضًا، وسواهما؛ ويحق لـ«يديعوت أحرونوت» أن تنتشي حين تكتب عن كلام الحمد: خطاب مشوّق لم نسمع مثله، ينتشر في العالم العربي.
لعبة بيع الروح والضمير هذه، التي يمارسها هؤلاء وسواهم، ليست جديدة في هذا الطريق الذي قطعته الإنسانية، فثمة من باعوا أرواحهم وضميرهم للشيطان دائمًا، ولتلاميذ الشيطان الصغار، وتلاميذ تلاميذه.
لا أعرف إن كان الدويري وهيفــــاء والحمد يستطيــعون النوم فعلًا، بعد قــراءة ما كتبه قراء ومواطنون رائعون تعليقًا على الأخبار المتعلقة بجريمتهم ضد الإنسانية والحق. لكنني أتساءل كيف يمكنهم غدًا أن ينظروا في عيون أطفالهم وأحفادهم، أمدَّ الله في عمرهم، وأعمار أمثالهم، ليروها، تلك، نظرة الاحتقار.
وبعد،
المجد لروح أمل دنقل الذي قال:
لا تصالح ولو منحوك الذهبْ
أترى حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل ترى؟
هي أشياء لا تُشترى
المصر القدس العربي