يقول الفيلسوف الكبير
غاستون باشلار:
"كمْ سَيتَعَلَّمُ الفلاسفةُ لوْ وَافقوا على قِراءةِ الشُّعراء ! "
ما يَجْمَعُ الشعراءَ و الفلاسفةَ يُشبه كثيرا ما يَجمع اليأسَ و المَرح، و ما يَجمع الجِدية الحادَّة باللامبالاة ، و رغم ذلك قد يُوجَد تناغمٌ بينهم في بعض الأحيان ، أو تأجيلٌ مُحدَّدٌ لتلك الحروب الوهمية و الشعواء في الوقت ذاتِه .
حين يَنظر الشاعرُ إلى باقة الورد و قد صُفِّفت فوق الطاولة و شُذبت كأحسن ما يكون التَّنْميقُ و التّحويرُ ، يرى فيها حُلُمه و لوحاته الخيالية، و يرى انعكاسَها في خدودٍ لا تَعرِفُ التّجاعيد، خدود تُوَزِّعُ البَسمات على فَراشات البَساتين الطائرة .
يرى الشَّاعرُ تناغمَ الألوان و كَرَم الطبيعة ، و صُدَف الأوقات، و في سِباحته تلك يَنسى آلامَه و همومَه و حتى حُضوره الحالي ، فيَعتقِد أن جميعَ المَوجودات تَتَحدَّثُ و تَنظر إلى الباقة بإعحاب كبير، و الباقةُ بدورها تَنْتَظِر التَّصفيقَ الحار َ و كأنه في مَشهد مَسرحيِّ حَيِّ يَتمتَّع أصحابُه بجُمهور صادق، يمتلك ذائقة نابضة بالحياة و الفرح.
مِن نفس الزاوية يَنْظُر الفيلسوفُ إلى الباقة و يَتَعجَّبُ من طَمْس العلاقة مع الجُذور ، ذلك الذي يَدخُلُ في مُسَلَّمات نُكران الجَميل ، و الانتصار للوقت الراهن و التّشبث بواقع خادع.
يرى الفيلسوف ذلك المالَ المصروفَ على وَهْمٍ سينعدِم خِلال ساعات أو يوم على أطول الآجال ، فيُشبِّهه بشراء نُكْتة تنتهي عند آخر فَتح للشفتين، و لا يبقى منها شيءٌ بعد ذلك ، ويَعتقِد أن هذا النوعَ هو هَدْرٌ للموارد في فَراغ العَدم الدائم، في حين يَتضوَّرُ آلاف الأحياء جوعا.
يرى الفيلسوف عَرقَ ذلك البستاني مُتشقق اليدين و جَمال تلك التُّرْبة التي تَعرَّضَت للضربات و الخُدوش بآلات حادة ، و كميةَ الماء الرقراق التي ضاعت دون أن تَلِد حَبّةَ قمحٍ مُتجعدة صفراء.
فماذا سيستفيد الفلاسفة من قراءة الشعراء ؟
و هل التعارض بينهم حقيقي؟
و هل الأمر يشكل مُشكلة فعلا ؟
كان غاستون باشلار قبل مقولته هذه يَتَحدثُ عن الصحراء برمالها الجافة و كيف أنه في لحظة شاعرية طائفة غَمَرَها بالماء ، حتى أنه أصبح يَخافُ عليها من الغَرق!
إنها السباحةُ الجميلةُ التي لا تُكلِّف المالَ و لا حتى الحركةَ، بل يَكفي أن نُغمض العيون، أو نشخص بالبَصَرِ نَحوَ السماء الصافية.
يَتوافق الشعراءُ و الفلاسفةُ حين يُنَظِّرون للمستقبل، للمجهول المُدهِش ، للأمل المحبوب، لكن ذلك التَّوافقَ لا يَعني التَّطَابقَ و لا حتى الخطَّ المُشتَرَكَ ، فحتى الفلاسفةُ لا يَنْظرون بعيون مُتوائمة مع غيرها دائما داخل البيت الفلسفي الواحد.
يَستفيد الفلاسفة من قراءة الشعر راحةَ مُحارِب، و لحظات من الجَمال تُساعِدُ على التّحديق الطويل في مَتَاهات عميقة داخل مَجابات مُظلمةٍ يُريد العقلُ دخولَها دون وُجود خرائطَ و لا حتى تصوُّرات أوليّةٍ مُساعدةٍ، و هو أمرٌ يُشبِه التّغافلَ قليلا ، أو سُكونَ الصّياد ، الذي يُعتبَرُ مُحاولةً لقراءة تَصَوُّرِ الفَريسة حتى لا يَفرِض عليها تَصَرُّفا آخَرَ قد لا يكون مَفْهوما عنده،
و ربما يقول الشعراء ما يُفيد أن الفلسفة َ و الشعر َ من حَواسِ الثقافة فلا يَسُدُّ أحدهما ثَلَمَ الآخر و لا يُمكْنُه الصُّمودُ بدونه،
و لكلِّ ذلك وَجهُ مَنطِقيُّ يَحمِل الشّكَ في جِرابه المَثقوب !.