
السيد اباه
في إطار الصراع الراهن بين روسيا والبلدان الأوروبية، اعتبر المفكر السياسي فلاديسلاف سورخوف أن جوهر المُشكِل يتعلق بمركزية الدولة الوطنية في العقل السياسي الغربي، في حين لا تعني هذه المقولة شيئاً في المُتخيّل التاريخي والثقافي الروسي.
نفس الأطروحة نقرأها في الفكر الصيني الراهن، وقد بيّنها عالمُ السياسة المعروف زانع ويوي، معتبراً أن الصين ليست دولة قومية على غرار البلدان الغربية، بل هي دولة حضارية ذات جذور عميقة في الماضي، تتسم بالتنوع العرقي والمجتمعي، وتتمنّع على الديمقراطية الليبرالية التي لا تتلاءم مع المجتمعات الواسعة وليست هي المسلك الشرعي الأوحد للحداثة. وبالنسبة له فقد طوّرت الصينُ نظاماً سياسياً يناسب خصوصياتها الحضارية والتاريخية، يقوم على معيار الاستحقاق والكفاءة بدلاً من الانتخابات التنافسية، وعلى الحَكَامة الرشيدة بدلاً من السباق التعددي الشفاف.
عالم الاستراتيجيات الألماني هولفريد مونكلر ذهب إلى أن العالَم يشهد اليوم انهيارَ الدولة الوطنية والرجوع إلى منطق الإمبراطوريات التي كانت تتحكم لقرون طويلة في البشرية. والإمبراطورية على عكس الدولة الوطنية، تتسم بالتنوع المؤسسي من خلال مركزها المهيمن وأطرافها التي تتمتع باستقلالية نسبية، بما يكفل لها القدرةَ على إدارة التنوع العرقي والقومي والديني، دون الحاجة إلى فرض هويات أحادية شاملة.
وفي هذا السياق، تحدث مونكلر عن أنماط جديدة من الإمبراطوريات: الولايات المتحدة من حيث هي إمبراطورية غير إقليمية تفرض نفوذَها خارج حدودها القانونية عبر القواعد العسكرية وسلاح الاقتصاد والنقد والريادة التكنولوجية.. والصين بصفتها إمبراطوريةً حضاريةً.. وروسيا بصفتها إمبراطوريةً تجدّد نفسَها.. والاتحاد الأوروبي كأول إمبراطورية ما بعد حديثة.
والسؤال الذي يطرح نفسَه حالياً هو: كيف نُحدّد مستقبل الدولة الوطنية في إطار هذه المعادلة الإمبراطورية الجديدة؟
لا ننفك نقرأ لكُتّاب عديدين حول نهاية الدولة الوطنية في إطار حركية العولمة الاقتصادية والتقنية التي قوّضت معاييرَ السيادة والهوية التي قامت عليها تاريخياً هذه الدولة. بيد أننا نعيش في الآن نفسه، وفي قلب الديمقراطيات الغربية بصفة خاصة، عودةً قويةً لأفكار الهوية الوطنية والسيادة الشعبية، ولو على حساب الأفكار الليبرالية الكونية التي هي الخلفية المرجعية لنظرية العولمة عابرة الحدود.
صحيح أن نموذج الدولة الوطنية ظهر تاريخياً في المجتمعات الغربية الحديثة، في سياق ثلاثي: تفكُّك الإمبراطوريات الأوربية الكبرى وتشكُّل الوحدات السياسية المحلية، الخروج من الحروب الدينية الطويلة وما أفضت إليه من ترجمة نظريات الحق الإلهي في مقتضى السيادة القومية المطلقة، بروز النزعات القومية التي أنتجت كيانات متناسقة ومنسجمة على أساس قيم ثقافية وهوياتية مشتركة.
لم ينجح نموذج الدولة الوطنية خارج السياق الغربي، حتى في البلدان التي اعتمدت النظام الديمقراطي الليبرالي دون عوائق، مثل الهند واليابان وكوريا الجنوبية.
وفي العالم العربي، برزت سردية الهوية الوطنية إثر تفكك الإمبراطورية العثمانية، وما تلا ذلك من ظهور القومية التركية التي تولدت عنها التجربة الجمهورية على أنقاض السلطنة المتفككة. إلا أن هذه السردية واجهت تحديين مختلفين، يتعلق أولهما بالنزعة القومية العروبية الرافضة للبناء الوطني (الدولة القطرية حسب التسمية الرائجة) ويتعلق ثانيهما بالتركيبة الاجتماعية القبلية والطائفية التي شكّلت عائقاً موضوعياً أمام انبثاق هوية وطنية منسجمة ودقيقة.والواقع أن الرِّهانات الكبرى التي تعيشها المجتمعات العربية الحالية تفرض التشبثَ بالدولة الوطنية خياراً لا محيد عنه من أجل تجاوز المأزق السياسي الحاد الناتج عن الانزياح القائم بين الأبنية المؤسسية العمومية والتركيبة الاجتماعية.
وبالرجوع إلى التجربة الأوربية الحديثة، يتبيّن أن المجتمعات العربية تعاني من نفس الاختلالات التي استوجبت بروز الدولة الوطنية، ونعني هنا أساساً الصراعات الأهلية التي تقتضي تشكّلَ بناء سياسي مركزي.
لقد استندت التجربة الأوروبية إلى عاملين رئيسيين هما: الإدارة البيروقراطية الناجعة وفق مبدأ التمايز والاختصاص، الذي هو التعبير عن ثنائية الدولة والمجتمع المدني المتولّدة عن الثورة الصناعية، والأيديولوجيا القومية التي صاغت، كما يقول عالم الاجتماع إرنست غلنر، الهويات السياسية المتجانسة في البلدان الأوروبية.
الجانب الأول يتعلق بالسياسات العمومية وهندسة بناء الدولة، والجانب الثاني يتعلق بالثقافة والقيم الجماعية المشتركة. أما الفكرة الإمبراطورية التي نجد لها بعض الأصداء في عالمنا العربي فليست ملائمةً لواقعنا الراهن، كما أن النقد الفلسفي والاجتماعي لنموذج الدولة الوطنية الذي نقرأه على نطاق واسع تأثراً بالفكر ما بعد الحداثي وتجارب الدول الكبرى غير الغربية، لا جدوى منه ولا يؤدي إلى أي نتيجة فاعلة.








