المصدر: بوابة الأهرام
اختص الكاتب السوداني أمير تاج السر "بوابة الأهرام" بنشر فصلين من روايته "جزء مؤلم من حكاية.. قصة قاتل" التي تصدر قريبًا.
أمير تاج السر، كاتب سوداني، صدر له من قبل عدد من الأعمال من بينها: "صائد اليرقات"، "366"، "العطر الفرنسي"، "إيبولا 76"، "منتجع الساحرات"، وغيرها، ترجمت أعماله لأكثر من لغة، فاز بجائزة "كتارا" للرواية العربية في دورتها الأولى 2015 فئة الروايات المنشورة، كما بلغت روايته "صائد اليرقات" القائمة القصيرة لجائزة البوكر عام 2011.
......
سبتمبر 1750
مملكة طير
(1)
كان الصباح حارًا ورطبًا، بلا أي نسمة مغوية، ولا أمل في ولادة نسمة مغوية، في ذلك اليوم من سبتمبر عام ١٧٥٠، حين طرقت برفق أولًا، ثم بشيء من العنف، ثم بعنف أشد، ذلك الباب الخشبي، المترب، العريض، الذي يبدو قديمًا جدًا، لنزل "الأخوات"، المبني بالحجر الصلد، والمدهون بلون أبيض لامع، الذي أنزلني أمامه "متوافق هجو"، صاحب الحمار النحيل، ومضى بعد أن استلم أجرته ربع دينار، وزودني بوصف بيته، حتى إذا ما احتجت إليه في أي شيء، قصدته، وكان التقطني من مرسى المراكب القريب من المنطقة، حيث وصلت اليوم فقط إلى "بوادي" بعد شهر تقريبًا من السفر المغامر، المرعب، في بحر ساخر مهتاج، كان يتلاعب بمركبنا، ويسخر من كل مهارة نبديها في الحفاظ على توازن كنا بالكاد نعثر عليه.
كانت بوادي هي عاصمة مملكة "طير"، والمدينة الرئيسة بها، وبدت لي وأنا أتأملها من البحر، أشاهد القوارب على شاطئها، وأسمع لغط الصيادين، وصياح التجار والمسافرين والقادمين، أشبه بوعاء كبير، على نار، كان الشارع شبه خال في تلك اللحظة من الصباح، وقد توقف رجل مسن، أشيب، داكن البشرة، ومتسخ الثياب قليلًا، كأنه بناء أو عامل في صناعة الطوب، طالعني برهة واضعا يده اليمنى أعلي عينيه، ومضى في طريقه من دون أن يطرح أي سؤال، وبدت امرأة من بعيد، تجر طفلًا باكيًا، ملتصقًا بالأرض يقاوم الجر، وحمال على ظهره ثقل ما، وجرو يعدو، وحمار مكوم قرب بيت مهدم، وبعض المعممين، خمسة أو ستة، يحملون عصيًا ودفاتر، ويمشون بصرامة، وخمنت أنهم مدرسون، في الطريق إلى عملهم، أو ربما دارسون في الطريق إلى درس.
كان المبنى الملاصق للنزل من الناحية اليمنى مبنيًا بالحجر أيضًا، ويبدو أكثر هيبة ونظافة، وقد طلي بلون أزرق غامق، وكتب عليه بخط أفضل من ذلك الذي كتب به اسم النزل: بيت الأرامل، والآخر الملاصق للنزل من الناحية اليسرى، مجرد حوش مسور بحيطان طينية قصيرة، وثمة أغنام مشتتة بداخله، أراها من بعيد ترعى، وأسمع أصواتها بوضوح، بينما يبدو هيكل رجل ممتلئ، جالس على دكة مرتفعة في أحد أركان المرعى، يداعب أسفله، أو لعله يحك مكانًا مستعرًا بتحسس ما، فلم أتبين الأمر جيدًا.
فكرت قليلا في معنى "بيت الأرامل"، وهل هو بيت يؤوي بعض أرامل بوادي بالفعل؟، أم مجرد اسم أراد به صاحبه أن يتميز بلا معنى، وكان هذا هو الأرجح، لأن بيتًا بهذه المساحة المحدودة، لا يمكن أن يؤوي أكثر من عشر أو عشرين أرملة أو ربما خمسين على الأكثر، في مملكة برغم قلة حروبها التي قد تحصد الرجال، لكن الموت يحدث دائمًا بطريقة أو بأخرى.
التفت خلفي بحذر، شاهدت مدخنة في بيت قريب يتصاعد من فمها بخار باهت، شاهدت رجلًا شبه عار، نائمًا تحت شجرة في فضاء بعيد، وامرأة على سطح بيت طيني يبدو وجهها جامدًا، وتتحرك يداها بسرعة، كانت تغسل أو تعجن، أو تهدهد طفلًا قلقًا، لا أدري، لم أحس بحاجة للتخمين.
كنت وصلت إلى بوادي وفي رأسي دوار كثيف، في قلبي توجس كبير تجاه أمور كثيرة متأرجحة، تركتها من خلفي، وفي جسدي ربما توجد عشرات العلل الهادئة، لكني لم أكتشفها بعد، وقطعًا أحتاج إلى خلوة أولًا، وإلى إحساس بالأمان وأن لا أحد يتتبعني، أو يراقب ترنحاتي لأعثر عليها، وأنجو منها أو أموت بها، وأظن أن نزل الأخوات الذي أحضرني إليه متوافق صاحب الحمار النحيل، وأخبرني بنظامه، وانضباط الحياة فيه بدرجة بعيدة، يفي بالغرض في هذه المرحلة.
لم تكن في الحقيقة مرتي الأولى ولا الثانية في ركوب البحر، ومصافحة أخطاره عارية بلا ستر، فقد سافرت مرتين من قبل إلى بلدين قريبتين من بلدي، لكن الأمر بدًا لي مختلفا هذه المرة، ربما لأن مهمتي التي كلفت بها في هذه البلاد تبدو غامضة، ولا أعرف عنها شيئًا حتى الآن، وربما هو الإحساس بتقدم العمر، فقد بلغت الأربعين، وأنا دائخ بين أنفاس البحر، وأعلم أنها السن التي تتقدم الموت بخطوات قليلة فقط، على الأقل في عائلتي التي يموت معظم أفرادها قريبًا من هذه السن، فجأة، أو بعلل باهتة جدًا مثل ألم في ضرس العقل، أو تورم طفيف في الرقبة، أو مغص أو انتفاخ في السرة، أو حتى من مجرد اعوجاج في نظرات كان من المفترض أن تحط على شيء وحطت على شيء آخر مغاير.
أمي ماتت صغيرة جدًا، وقبل أن تصل الثلاثين، وقيل كانت تتغدى مع الناس، ووجهها أصيل وجميل، ومتورد، حين سمعت الموت يسألها: هل نذهب إلى التربة يا أمينة؟ ردت: نعم، نعم، ابتلعت لقمتها على عجل، وذهبت، وعندي عم مات في الثانية والأربعين وكان يرقد على ظهره في العادة، ومات في الليلة التي غير فيها طريقة نومه، ورقد على بطنه، وعمة في الثالثة والأربعين، ظلت تشم رائحة جثتها ثلاثة أيام، كما كانت تردد، وتستفرغ، ولا أحد يعرف شيئًا، أو يستطيع التكهن بشيء، قبل أن تسقط بلا أنفاس في النهاية، وإن كان أبي عاش طويلًا جدًا، ويعيش حتى الآن، بكامل رغباته، وخلاياه الجسدية والحسية، وقد تجاوز التسعين، وأختي "جنوبة" التي تصغرني بستة أعوام، أسمع كثيرا عن جبروتها، وغرابة هيكلها الذي يشبه هياكل الرجال بدرجة بعيدة، وأنها يمكن ببساطة أن تصرع ثورًا متبجحًا، وحمارًا مهتمًا بصلابة ظهره، وذئبًا خطرًا من ذئاب البراري الجائعة، وتبدو لي وللناس كلهم، مرشحة للعيش طويلًا، والتحول إلى شجرة، وكان لقب الشجرة، هو اللقب الرسمي الذي يطلق على النساء المعمرات ممن تجاوزن المئة، وامتلكن الحكمة، وأصبحت أقوالهن وأحلامهن وحتى نزواتهن، فقرات مقدسة بين الحكايات.
وفي بلادي أكثر من عشر شجرات يابسات من قبائل مختلفة، لكنهن مقدرات بشدة، ويستمع إليهن حتى الملك ووزراؤه، ويمكن جدًا أن يخرفن بأي إفراز أو بصاق، ويتحول إلى فقرة هامة في الدستور، وقيل إن المرسوم الذي أصدره الملك ذو الأصبع، حاكم البلاد السابق، ويقضي بشرعية استخدام الأظفار الطويلة المسننة للنساء، في خدش وجوه الأزواج في أية لحظة يشعرن فيها بالملل، أو ببوادر أزمة نفسية، لم يكن سوى تخريف رددته الشجرة: "هوايا"، وكانت عجوزًا في المئة والعشرين، وبالكاد تسمع أو تبصر أو تشم. أيضًا القرار الغريب، بمنع طحن الحبوب في الليل، ومعاقبة من يفعل ذلك، ينسب إلى شجرة أخرى، اسمها "نعمانة"، قيل خرفت به قبل أن تموت بدقائق قليلة، وتم تلقفه وصياغته قرارًا ملكيًا.
كنت أسمع عن عائلتي في الحقيقة من بعيد، ومن أشخاص يعرفون الأسرة، أصادفهم أحيانًا في الطرق أو الأسواق، فلم تعد لي صلة ببيت ولدت فيه، ولا أهل كانوا في ما مضى أهلي، منذ خرجت ذات يوم وأنا في السادسة عشرة، ولم أعد بعد ذلك أبدًا.
كنت أحمل بيدي اليسرى حقيبة قماشية بيضاء تحوي ملابسي القليلة، وبعض أغراضي التي أستخدمها في العمل من أدوات حادة، وقناني صغيرة فيها سوائل قاتمة وشفافة، وفي قاعها خيطت بعناية، تلك الرسالة المطوية التي استلمتها مع الحقيبة، قبل السفر بساعة واحدة فقط، وأمرت بأن لا أمسها، أو أتحاوم بأفكاري حولها، إلا في بوادي، وشكل لي ذلك هاجسًا ما، لكن ليس كبيرًا ولا منغصًا حتى الآن، أمسك بيدي اليمنى، عصا سوداء من خشب عادي أملس، تلقيتها في السنة الأخيرة، منحة، ورافقتني في رحلاتي القصيرة، التي كنت أقوم بها للصيد أو التسلية أحيانا حول العاصمة، حين أكون منشرحا، ولا يشغلني شيء، وهشت عني الكلاب الضالة، والقطط المتطفلة، وأيضًا خيالات البشر التي كنت أخالها تتحاوم من حولي، كلما سرت في طريق، أو جلست في حانة، أو ارتميت تحت شجرة في إحدى القيلولات، بينما تحت ملابسي وحول وسطي في حزام آمن من الجلد المتماسك، ترقد دنانيري التي أحتاجها للعيش في بوادي، حتى أنجز مهمتي وأعود إلى بلادي مبتهجًا، أو لا أستطيع إنجازها، وتنتهي القصة بنهاية لا أرغب حتى في تخيلها.
لم أكن صاحب مهنة من الممكن أن تخطر على بال أحد، مهما تأمل قامتي الطويلة، وجسدي النحيل، وأصابعي الرشيقة إلى حد ما، ومهما سكن بنظراته في عيني الهادئتين معظم الوقت، ولا تعطيان انطباعًا عن شيء، أو صرامتي التي لم تكن اصطناعًا، وإنما طبعًا متأصلًا، كانت مهنتي في الحقيقة، خطيرة جدًا، وجليلة أيضًا، وتبدو لي مطلوبة بشدة، في زمن اختلط فيه الصالح بالطالح، والخطأ بالصواب.
(يُتبع)