أنا، ولذاتِ السبب أنت، سنموتُ قريباً. قريباً جداً. فجأةً ستهمد أنفاسنا ثمّ نتلاشى كالضباب. ثمّ ننتهي بشريتُنا ونؤسطر أو نُنسى. نرتفع أو نقع. إلاّ أنني، بعكسِك، كنتُ قد وقفتُ على مصرعي. وكان الشيخان، هيراقليطس ثمّ من بعدِه هايدغر، قد ذهبنا إلى أنّ الموت ليس قضيتنا، ذلك أنّ ما يموت ليس نحن. وأنّه عندما يحين لا يجدنا بل يجد موضوعاً آخر. نحن لم نعد هنالك. ليست للإنسان انعكاسيّة في الموت. قلتُ: ليس ذلك بشيء. وكنتُ، في هيامي وسياحتي الصوفيّة، قد رأيتُ جُثتي مِراراً. وكنتُ في هجراتي ومرائي قد وقفتُ على آثاري ومواتي وفنائي. وموتي هو قضيتي. وكانت لي به، بالمراهقة علاقة جنسية حتّى، فكنتُ أجد لذة لا توصف في استدعاء موتي. ذلك أنّني أحببتُ أن أكون الجبلاوي، الذي يُمكِنه متابعة الحفلة بعد أن يغادرها. كنتُ أريد أن أكون الأبّْ الكافكاوي، الذي توجّه إليه الرسائل ويُهاتف بعد وفاته. ولكن هيهات.
ثمّ إنّني شُفيت من هذه الجنسانية النيكروفيليّة. معّ أن للمجنون حملقة، كما يُقال. ثمّ إنّني حوّلت موتي إلى أدب. فصرّفتُ أعمالي في الماضي، في الاستذكار. ثمّ إنني بكيتُ كثيراً على روحي. ولكنّني بكيتُ على موتِ الموت في الأدب، على أبي ذؤيب الهذلي وعلى مالك بن نويرة وعلى أبي العتاهية وعلى أدغار ألان پو. والآن دعني أرتاح: فأنا أودّ، قبل أن أرحل أنْ أقيم علاقة باخوسية بالموت. علاقة مجالسيّة. لقد بدأتُ تحضيراتي لغربتي الأبدية. ويتعيّن عليَ الآن التفكير في شاهِد قبري. ولسوء الحظ لم أقرض الشِّعر؛ ولذا فإنّ أمامي وقتاً قليلاً للخروج ببيتيْن يستحِقّان أن يوضعا على ضريحي. إنْ لم أفعل فالبركة في مولانا أبي العلاء. أما الوداع فلا، كما تعرِف وردة. وإنّما هي البغتة.
لم يبقَ لي وقد عكّرتُ عليك (أوقد فعلت؟) إلاّ أن أتركَك مع ميخائيل:
"والآن سِرْ في طريقك ولا تقل لي وداعاً
فأنا لا أقولُ وداعاً لأحد
أنا هنا ماضٍ في حياكتي".