إعلان

مربديات.. باتة بنت البراء

ثلاثاء, 07/10/2018 - 23:59

مربديات:

ثم شقت الصفوف التي تملأ القاعة أفواج الأطفال الصغار لابسين البياض وهم يحملون ورودا حمراء قانية، إنهم أطفال مدرسة بلاط الشهداء ولا تزال الضمادات تزين الصدور والأذرع والسيقان والعيون، هل تعرفون عن هذه الواقعة؟

وقفوا أمامنا بوجوه ملائكية، والبراءة المدثرة بالخوف تملأ عيونهم، لم نتمالك أمام المشهد؛ فانسابت الدموع غزيرة وارتفعت التنهدات، براءة تقطعت أوصالها ورؤوس معصوبة تشع جمالا وصدقا، وارتفع نشيدهم الشجي:

نحنُ أطفالُ بلاطِ الشهداءْ
نحنُ الأزهارُ الحمراءْ
يا ويلكمْ، يا ويلَ أعداءِ الطفولهْ !
مِنْ عِـرَاقِ البعـثْ
هو ذا صدامُ فينا بطلا
وأبا يسمو على درب الرجالْ!

وارتفعت صورة صدام حسين من الأيادي الصغيرة ، ومن خلفِ كل وردةٍ كخاتمةٍ للنشيد.

بدأت بنات صغيرات يوزعن الورود الحمراء والفُـلَّ الأخضر؛ فمع كل ضيف مربدي وردةٌ حمراءُ وباقةُ فُـلٍّ.
شُغِـلتُ بالتفرس في الوجوه وأبهة المكان، في حين استرسلت  جارتي البغدادية الجميلة في بكاء صامت، التفتُّ إليها مرات وربتُّ على كتفها ولكنها كانت حزينة حزن أمهات الأطفال الذين ماتوا، والذين أصيبوا.
عشتُ حزنها حتى تناسيتُ ما حولي، واتنبهتُ من سرحتي حين أحسستُ قطرات ماء تلامس يدي؛ إنها الأزهار الحمراء تذرف دموعها هي الأخرى، لقد كانت ندية محملة بالدموع ، فتساقطتْ على يدي، وأطرقتُ مهمومة أتخيل المشهد الكارثي، والأطفال في قاعة الدرس ينتظرون الأوبة إلى المنازل، وحضن الأمهات، والغداء الشهي، وفجأة يأتي صاروخ عابث ليلوث المشهد البريء.

القاعة عامرة بالوجوه والعدسات وأصداء النشيد الطفولي، سقفها على شكل أقواس متقاطعة تزينها ثريات باهرة فخمة، وأجهزة البث التلفزيوني تعمر زاوايا المكان، وأضواء الثريات تشق السقوف الدائرية وتنعكس على البلاط المفروش بالأحمرتماما كلون الكراسي والورود والمنصة.

وجاء دور الشعر، واستهلت القصائد بالشاعر العراقي كمال الحديثي، بدا رجلا طويل القامة أقنى  الأنف، ألقى قصيدة حزينة حزن أمهات أطفال بلاط الشهداء، وتقدم بعده الشاعر المصري سعد درويش وأنشد قصيدة  تذكرك بقصيدة الملك الضليل:

عُوجُوا فَحَيُّوا لِنُعْمٍ دِمْنَةَ الدَّارِ  **   مَاذَا تُحَيُّونَ مِنْ نُؤْيٍ وَأَكْـدَارِ!

فقد استخدم نفس البحر ونفس القافية حين بدأ قصيدته بقوله:

سَلِمْـتِ للشعرِ يَا بغدادُ صافيةً **  والشعرُ دونَ قَـوَافٍ لهوُ مهذارِ

فقد أعلن في قصيدته موقفه من الحداثة، وشنها حربا شعواءَ على قصيدة التفعيلة والقصيدة النثرية.

واعتلى المنصة شاعر العراق؛ عبد الرزاق عبد الواحد ليلقي قصيدته البسيطية (المنعطف):

الحمـدُ لله، يبقى المجـدُ والشرَفُ  ** إنَّ العـراقَ أمـامي حـيثــما أَقِـــفُ
وإنَّ عَـيْنِي بِهَـا منْ ضَـوئِــهِ ألَـقٌ ** هُـدْبِي عليهِ طــوالَ الليــلِ يَأتْـلِـفُ
 وإنَّ لِي أَدْمُعًا فـيـهِ وَمُـبْـتَـسَـمًــا ** ولِي دمٌ مثـلما أبـنــــاؤُهُ نَــزَفُــــوا
الـحــمــــدُ للهِ أنِّي مَــا أزال إلَـى ** وَجْـهِ العِراقِ أُصَلِّي حينَ أعْـتَكِـفُ

وأنشد أحمد سليمان الأحمدي السوري، المقيم بأستراليا، بائية من بحر الكامل دعا فيها إلى وحدة الصف العربي، وكان ختام الجلسة الشعرية الصباحية مع الشاعر العراقي الرائع رعد بندر.

 هكذا هيمنتْ في الجلسة الأولى قصائد خليلية قوية السبك، جيدة المعنى، جعلتني أومن بأحقية القديم في الاستمرار، وأراجع رأيي المنحاز ضده.

عند الواحدة زوالا كانت الباصات تقلنا إلى ساحة الشهيد، المكان مهيب رصت أرضيته بمرمر صقيل يسهل عليه الانزلاق، وقفنا متأملين الساحة الفسيحة، والعدسات تلتقط صور الحشود المتلاحقة.
 نزلتُ إلى الطابق الأرضي عبر سلالم ملتوية، كان المكان عامرا بالقاعات؛      في الجناح الأيمن معرضٌ يضم أنواعا من الآلات الحربية القديمة: سيوف بمقابض نحاسية وفضية، وسهام طويلة مثقفة رِيشَـتْ قوادمُها،  ونصال دقيقة الصنع بلون نحاسي.

 دلفتُ إلى الجناح  الثاني؛ فاستوقفتني تلك التوابيتُ الزجاجيةُ المرصوصةُ تحوي كل منها بذلة عسكرية، تنبئك عن سمتٍ من كان يرتديها.
 ثقوب الرصاص تزخرفها على الصدور وعلى الأفخاذ والسيقان؛  آثارُ الدماء  واضحة للعيان على كثير منها؛ وتذكرتُ قول الحُصين بن الحمام الْـمُـرِّي: 

تَأَخَّــرْتُ أَسْتَـبْـقِي الْحَـيَـاةَ فَـلَـمْ أَجِــدْ **  لِـنَـفْـسِي حَـيَـاةً  مِثْـلَ أنْ أَتَـقَــدَّمَــا
نُــفَــلِّــقُ هَــامـًا مِـنْ رِجَــالٍ أَعِـــزَّةٍ ** عَلَيْـنَـا، وَهُـمْ كانُـوا أَعَــقَّ وَأَظْلَمَــا
فَـلَسْنَا عَلَى الْأَعْـقَابِ تَدْمَى كُـلُومُـنَـا ** وَلَـكِـنْ عَـلَى أقْـدَامِـنَـا  تَقْـطُرُ الدِّمَـا...