
في ندوة باريس التي نظمتْها، الأسبوع الماضي، مؤسسةُ الفكر العربي مع معهد العالم العربي، سُئلتُ: ما هي خصوصية الفكر المغاربي داخل السياق الثقافي العربي الأوسع؟
لا مندوحة من الإقرار بوحدة الثقافة العربية من حيث الاهتمامات والرؤى والمواقف، ومع ذلك لا يمكن إنكار خصوصية الفكر المغاربي ضمن هذا النسق الثقافي الشامل.
لقد بدا لي أن أحد مظاهر هذه الخصوصية يكمن في حجم الاهتمام الفلسفي الكبير لدى الكتاب والمثقفين المغاربة، بما فيهم غير المتخصصين في الدراسات الفلسفية.
كثير من الناس لا يعرفون أن عبد الله العروي، الذي كتب سلسلة المفاهيم النظرية حول الحرية والدولة والأيديولوجيا والعقل والتاريخ، ليس فيلسوفاً، بل مؤرخاً وعالِم سياسة، لكن حضور نصوص روسو وسبينوزا ومونتسكيو وهيغل.. كان لافتاً في جل أعماله. وفي كتابه الصادر قبل سنوات حول «الفلسفة والتاريخ»، يتبرّأ العروي من صفة الفيلسوف التي أُلصقت به، لكنه يعترف بميله العميق للتفكير الفلسفي وتوظيفه للمفاهيم والمصطلحات الفلسفية في كتاباته التاريخية والسياسية.
نفس الحكم يصلح على مؤرخ بارز آخر هو التونسي هشام جعيط، الذي كتب دراساتٍ شديدةَ الأهمية حول الفكر العربي الإسلامي الوسيط، وموضوعات التنوير والتحديث في الخطاب العربي المعاصر، وكان له حضور لافت في الحقل الفلسفي التونسي، لكنه لم يكن متخصصاً في الفلسفة ولا مشتغلا بها.
كثيرون أيضاً لا يعرفون أن محمد أركون ليس فيلسوفاً، بل دخل إلى حقل التفكير الفلسفي من باب الدراسات الإسلامية والآداب، لكنه وظف مقولات التأويليات والابستمولوجيا ومناهج تاريخ الفكر في المنحى الذي عني عنه، وهو ما أطلق عليه مقولة «الإسلاميات المطبقة» (على غرار العقلانية التطبيقية لدى غاستون باشلار).
بعض الأدباء أيضاً سلك المسلكَ نفسَه، مثل الروائي التونسي الفذ محمود المسعدي الذي كتب عدة أعمال إبداعية لا تقل عمقاً وأهميةً عن نصوص نيتشه التي غيرت مجرى الفكر الفلسفي المعاصر.
وفي الورقة التي قدمتُها لندوة باريس عن «مسارات الفلسفة المغاربية الراهنة»، ميزتُ بين نهجين أساسيين في هذه الفلسفة، أطلقتُ على أحدهما: النهج التأويلي الابستمولوجي، وعلى الآخر النهج الديكولونيالي التحديثي.
في المستوى الأول، تبرز المحاولات التي سعت لتقديم قراءة جديدة للتراث العربي الإسلامي بتوظيف آليات النقد الابستمولوجي وأدوات تحليل الخطاب وتفكيك النص. ومع أن هذا النهج بدأ في السبعينيات مع الطيب تزيني في سوريا وحسين مروة في لبنان، إلا أنما ميز الكتابات الفلسفية المغاربية هو الخروج من المدونة الماركسية الكلاسيكية إلى تاريخ الأفكار والمفاهيم وحفريات المعرفة وتأويلية الخطاب، بما هو ظاهر في أعمال محمد عابد الجابري ومحمد أركون ومَن تلاهما تواطؤاً ونقداً في الساحة الفلسفية المغاربية. ومن المهم أن نلاحظ هنا أن هذا المنحى قد تطور فلسفياً في السنوات الأخيرة في اتجاه بناء تأويلية نظرية تطبيقية مركّبة تستلهم أفكار ومناهج الهرمنوطيقا الفلسفية المعاصرة، كما هو واضح بقوة في أعمال الفيلسوف التونسي محمد محجوب.
وفي المستوى الثاني، نلاحظ أن مسلك نقد الدراسات الاستشراقية والتمثلات الاستعمارية بدأ مبكراً في الفكر المغاربي من خلال كتابات المفكر الجزائري مالك بن نبي في أربعينيات القرن الماضي، قبل مقالة الباحث المصري أنور عبد الملك حول أزمة الاستشراق المنشورة في مجلة «ديوجين» الفرنسية سنة 1963.
وقد شكل كتاب هشام جعيط «أوروبا والإسلام»، الصادر سنة 1978، محطة حاسمة في هذا النقد الديكولونيالي، قبل انتشار عمل أدوارد سعيد الشهير حول «الاستشراق» الذي يعتبره الكثيرون الوثيقة المرجعية للديكولونيالية.
إلا أنما ميز الفكر المغاربي هو الخروج من سردية محاربة الغزو الثقافي الغربي، والنظر إلى الخطاب الاستعماري في سياق العلاقة المعقدة بمسار التحديث الفكري والمجتمعي، بما هو بارز في كتابات جيل كامل من فلاسفة المغرب العربي، مثل علي أومليل وفتحي التريكي وفتحي المسكيني.. إلخ.
لكن ما هي الحصيلة الإجمالية لكل هذه التجربة الفلسفية الغنية؟
لقد لاحظتْ متدخلةٌ في لقاء باريس أن الإسهام الأول لمفكري المنطقة المغاربية يتمثل في كونهم أدخلوا إلى النسق الدلالي العربي الكثيرَ من المفاهيم والمصطلحات الجديدة التي غيّرت نوعياً طبيعة الحقل الثقافي العربي في عمومه. ولا شك في أن هذه الملاحظة صائبة، فلا أحد ينكر أن الفكر العربي المعاصر غدا يتكلم بلغة جابرية ويستخدم مفاهيم وإشكالات عروية، وينزع إلى السؤال الفلسفي في ما وراء ضيق التخصص والاهتمام.
*أكاديمي موريتاني