(الجزء الأول اول)
التقيت به في الجامعة الأردنية في صباح عمّاني ماطر زمهريري حوله حضوره الدافئ الصحراوي ليوم ربيعي مملوء بالندى والازهار والبساتين
لقد كان يومها عبد الوهاب كحال جميع الشناقطة عندما تلتقي بهم لأول مرة ،لا يملك الهيئة التي تثير الاهتمام وتدعوك للأقتراب منه لكن ما ان يقول (كلمة) واحدة حتى يشدك من اقصى اقصاك له وهذا ما يجعله رجل الدهشة وما يجعل الشناقطة مدهشين على الدوام فالشنقيطي حين تعرفه لا يمر من خلالك مرور الكرام بل يقيم فيك الى الابد.
كان عبد الوهاب يجلس بجوار الشيخ الذي كنت قاصدة اياه شاخصا بصره نحوي بكل مافيه من شموخ وكبرياء ووسامة وكل شيء فيه يصيح ثقة ..ثقة..ثقة ، بينما كنت انا لا مبالية وغير مكترثة ومشغولة بأقناع الشيخ بطلبي حتى قال عبد الوهاب مقاطعا حديثي مع الشيخ:
– من اي عراق انت ؟
– انا من عراق العرب
-فأنشد : يا دارَ عبلةَ بالعراقِ تكلّمي
هل أصبحَتْ جنّاتُ بابل مقفرة؟
هـل نَهْرُ عبلةَ تُستباحُ مِياهُهُ
وكلابُ أمريكا تُدنِّس كوثرَه؟
فعلت هذه الابيات بقلبي فعل الخنجر المسموم وشعر هو بأضطرابي وهجوم الاحزان علي وادرك خطأه في اختيار هذه الابيات الموجعة التي نادت الدموع لأطراف عيني
فحاول ان يتدارك فعله بأبيات لعبد الرزاق عبد الواحد اختار منها :
بغداد.. أهلك رغم الجرح ، صبرهمو
صبر الكريم، وإن جاعوا، وإن ثكلوا
قد يأكلون لفرط الجوع أنفسهم
لكنهم من قدور الغير ما أكلوا!
ثم تحول وجهه الوديع الناضج الملامح لوجه طفل شقي وقال
–اظن انك العراقية الوحيدة التي قد تأكل نفسها
-لماذا؟
-لأنك بقلاوة
ووجدت الدموع التي ناداها الحزن لعيني طريقا للحرية غير الذي اتت به ..لقد ضحكت حتى خجل مني الضحك وتشبه بالبكاء وبعد موجة الضحك التي اخذتنا نحن والشيخ معنا سألني مرة اخرى
-لماذا فتاة جميلة تطلب العلم؟
-طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة
-فرض كفاية كفاكن مؤنته الرجال
كـُتب القتل والقتال علينا *** وعلى الغانيات جر الذيول
– لم نراكم في قتل ولا قتال لذا رفعنا الذيول وشمرنا عن السواعد
واخذتنا موجة ضحك اخرى
***
لنفصل القول في عبد الوهاب قليلا :
هو طفل في الثلاثين من عمره،يملك أكرم اخلاق الرجال وشقاوة الاطفال وغفرانهم ،شامخ الطول ،قوي البنية ، ناريّ العينين ،ملامحه مترفة بالوسامة والخدر،وفي كل ملمح من ملامحه يسكن شيطان وملاك بسلام ووئام ،ربما لهذا اشعر بالانتماء لوجهه العراقي اكثر من كونه موريتاني،وكثيرا ما اقول له عيناك وطني !في حديثه من وطن غربتي الاولى ومرابع صباي في بلاد الشام الكثير،عندما يتحدث بلغته العذبة الرائقة الزلال تشعر ان الكلمات تقبل فمه حين تخرج منه عرفانا وتقديرا لحسن تشييعه لها الى الاذن ولأختياره العادل لها وانصافه اياها ولأنتعاشها بطيب انفاسه ونداوة اسنانه ونورها وضيائها.
قابلت الكثير من الاشخاص الاذكياء لكن لم يحدث ان قابلت ذكاء على هيئة رجل الا عبد الوهاب،يعرف ما تريد ان تقول دون ان تنبس ببنت شفة ويعرف ماذا تريد قبل ان تريده ويعرف متى يجب ان يتحدث ومتى يصمت ويعرف كيف يجعلك تقول ما يريدك ان تقوله ،قال لي بعد مرور عام على لقائنا الاول انه استقصد ان ينشد لي ابيات عن العراق موجعة لكي يخلق لكلمة” لأنك بقلاوة” المناخ الذي يجعلها لا تبدو غزلا مبتذلا ورخيصا.
ومن اوجه ذكائه الخارق هي قدرته على خلق الكوميديا وهذه اعلى مراتب الذكاء، الابكاء في عصرنا سهل لكن الاضحاك هو معضلة الانسان العصري لذلك اصبح عالمنا مليء بالمهرجين الذين يدفعوننا للغثيان لا للضحك وحين نشتاق للتلذذ بالكوميديا ونعود لمشاهدة كوميديا الزمن الجميل ونشعر بالحزن على حالنا الان،وما بين كوميديّ الحاضر والماضي نعيش مأساة العطش للضحك ،اما كوميديا عبد الوهاب فهي نوع راقي من السعادة دون تهريج ولاافتعال ولاتكلف ولا ابتذال ودون سخف وحمق تتدفق لروحك خالقه فيك انتعاشا ومرحا وفرحا ومعنى ،وترتقي بعقلك وتجعلك لماحا واكثر حصافة.
اما اجمل سماته الشخصية فهي الكرم،وهي سمته في كل شيء،سمة وسامة هيئته واناقته الانجليزية الروح وشمائله وروحه وغضبه الشهي وفي علمه ووقته واهتمامه الخ..،ومن سمو كرمه ان كل شيء منه تشعر انه هدية حتى الاوقات العصيبة ولحظات سوء الفهم ،وان الهدايا العينية من فساتين واقراط وعطور وشوكلاته هي من حقوقك عليه لا من فيض كرمه.
كرم يمينه لا يعد ولا يحصى ولا يجازى بثمن،في احدى المرات كنت ابحث عن كتاب توقفت طباعته فقال لي انه يملك نسخة منه ولكن في لندن حيث درس وتخرج ويعيش نصف عامه فيها وكنت اظن فيه الكرم نعم وانه سيأتيني به بعد ان يذهب للندن-كان حينها في موريتانيا-لكن لم اتخيل أنه في اليوم التالي سيرسل مفتاح شقته الى لندن لصديق ليأخذ الكتاب ويرسله له مع المفتاح لموريتانيا ثم يرسل لي الكتاب في البريد من موريتانيا لحيث اعيش!
اما الخصلة الاخرى التي يعجز الرجال ان ينافسوه عليها هي الشجاعة المطلقة والحاضرة في كل شيء في حياته، شجاع على الحياة لا يخشاها ولا يتركها تتلاعب به،شجاع في قول الحق ومقارعة الظالم،شجاع في المعارك وفي القتال،شجاع في مواجهة الناس بحقيقتهم،شجاع في العلم،شجاع في مشاعره،عندما يشعر بأي شيء مهما كبر او صغر يفصح عنه بل يسخر من الرجال لأنهم في حالة هرب ازلية من النساء والمشاعر،شجاع في اعترافه بذنوبه ومساوئه،شجاع في حبه وعشقه والاهم شجاع على الخير.
>>>>>>>يتبع<<<<<<<<<<