دعاني إخوة كرام ذاتَ ليلة إلى عقد نِكاح طَلع لهم بسَعد, وكانوا معه على وَعد, فلم أجد بُدًّا من إجابة دَعوتهم, رَغم أنِّي كنت مشغولَ البال, ويُطاردُني تَزاحُمُ الأعمال, وحين حضرت وجدتُّ نفسي في ظلِّ آداب تَبعث السّكينة, وتَفوح عليَّ منها نَسماتُ طرافة ألطفُ من ريش النَّعامة.
كان عددُ الحاضرين قليلا..ولم يَكونُوا عِزِين كما في كثير من المناسبات, بل كانُوا جماعةً واحدة, يتبادلون الحديث, ويتعاطَون القِرَى..وكان بينهم شيخ يَعقوبِيٌّ مُسنٌّ, متواضع الملبَس, مكوَّر العمامة, مرقومٌ بحِبر البداوة مَصبوغ بلونها..يَتحدَّث ويُكثر الاستشهاد بالشِّعر, فيُسفر عن حُسن إفادة غيرِ مجلوبِ بتطرية.
حين حضر الطَّعام قال الشَّيخ: "يُسمِّي النَّاسُ هذا الطَّعام وليمةً, ولا يَبدو الأمرُ كذلك, فالوليمة على الرَّجل بعد العقد, وهو لم يُعقد له على المرأة بعد".. ثُم تساءَل: "ما دامت المرأة ستُزفُّ بَعده, هل نُسمِّيه مأدُبةً, أو عُرسا.. أفيدُونا..!؟ ونقول على كلِّ حال:
كلُّ الطَّعام تَشتهي ربيعة..العرسُ والإعذارُ والنَّقيعة.." وأرسل معها ابتسامة أدار بها كأسَ الضّحك على الجميع.
قال أحد الحاضرين: "نُسمِّيه وليمة أو عرسا, فهو طعام مثلهما على كلِّ حال.."
وتَضوَّعَ هنا من جهة الشَّيخ مسكٌ فَتيق من لسان العرَب والطُّموح إلى معرفتِه..فقال: "بل نَبحثُ عن اسمه لنَعلمه, كما علِمنا أنَّ طعام العُرس وليمة, وطعام الزَّفاف عرس, وللضَّيف قِرى, وللزَّائر تُحفة, وعند الدَّعوة مَأدُبة, وعند النِّفاس خرس, وعند حلق شَعر الوليد عقيقة, وعند الخِتان عَذيرة, وعند بناء الدَّار وكيرة, وللقادم من السّفر نقيعة.."
وَذكر الشَّيخ في ذلك نَظما لا أحفظه, أخرجه من كنانة حفظه سريعا كالسّهم المَريش.
وفي ذلك المجلس الرَّحب تبادلنا التَّعارف..ولا أتذكَّر السَّبيل الَّتي سلك الشَّيخ تلك اللَّيلة حتَّى عَرَّس عند ذِكر الآباء والأمّهات بما لا يُعجب النِّساء..فذكر قولَ الشَّاعر:
لا تَشتمَنَّ امرَأً في أن تكون له..أُمٌّ من الرُّوم أو سوداءُ عجماءُ
وربّ واضحةٍ ليست بمُنجِبةٍ..وربَّما أنجَبَت للفحل سوداءُ
فإنَّما أمّهات النَّاس أَوعيةٌ..مُستودعات وللأحساب آباءُ
ثمَّ قال إنّ البيت الأخير كان يَتيما عنده, حتَّى سمع الأبيات مجتمعة من عَجوز سالمية في بَعض بوادي تِيرس..ثمَّ قال: في تأوُّه المشتاق قولَ لمجيدري:
لقد نَفى عنِّي الكَرى..شَوقي لأهل تِيرِسِ
ورُبّما حلَب في التُّراب, وحكى ما "مَضغه العُجول" ولكن لم نُواجهه إلّا بمُقتَضى الأدب.
ومن طريف ما كان منه على تلك المائدة المتنوِّعة..أنَّه ذَكر أُمورا طبِّية تقليدية قال إنّها مُجرَّبة النَّفع, فقيل له هل سألتَ عن رأي الأطبّاء في ذلك ؟ –وكان من بين الحاضرين دكتور طبيب- فضحك الشَّيخ وقال:
إذا ما كنتَ ذا بولٍ صحيحٍ..ألا فاضرب به وَجهَ الطَّبيب.
يَقول ذلك الشَّيخُ إنّه عامِّيٌّ محبٌّ للسان العرب, وإنّه لا يَلوي عليه إلَّا بعضُ الطُّلَّاب أغلبهم أفارقة, ممّن يتحدَّث معهم في المسجد أو في الطَّريق..فيأخُذون عنه شاهدا في النَّحو أو اللُّغة أو الأدب.
وأتذكَّر شَيخا حَسَنيا من طينة هذا الشَّيخ, كان متعلِّقا بهذا اللسان, يَكرَه مُخالفة إعرابِه, ولا يَكاد يتكلَّم إلَّا به, كان يُصلِّي الجمعة في مسجد بُدَّاه..ولا يَسكت على لحن لأحد كائنا مَن كان, وذَاتَ مرَّة وَعظ واعظ فذكر حديث "إذا ذَبَحتم فأحسنوا الذِّبحة" فكسر عين الفعل من ذبح وفتَح ذال الاسم ..فقال الشَّيخ كالمستقذر "اخُّوخ" ألم تَسمع قوله تعالى: "فذَبَحوها وما كادوا يَفعلون" !؟ ثمَّ قال: والمقصود في الحديث هيئةُ الذَّبح وليس المرَّة.
وكان يَجلس إلى جَنبه فرنسيٌّ مسلم حريص على الاستفادة منه, كان يَجمع في ورقات عنده بَعضَ ما ينثُرُه ذلك الشَّيخ من فوائد.
وأتذكَّر صاحبَ دُكّان كان الطُّلَّاب العرَب والأفارقة يَبرُزون إليه اقتِباسا من علمه بُروزَ الفراش إلى الضَّوء..فكان يُعرب لهم الخَفيَّ, ويحلُّ لهم المُعضل..ويُحدِّثهم بهذا اللِّسان, وكان الطُّلاب يَشترون مِن عنده..فإذا وقف بالوَصيد شَخصٌ فَتَح لأذنه صوتا من سُوق عكاظ أو ذي المجاز.
ولا أنسى يَوم جاءني طالبٌ غينيٌّ نَبِه.. فسألني قبل دَرسِه عن لامية القطاميّ..وقال إنَّه ركبَ سيَّارة أجرة فأسرع سائقُها سُرعة غيرَ معتادة, فنبَّهه أحدُ الرُّكاب.. ثمَّ قال له:
قد يُدرك المتأنِّي بعضَ حاجتِه..وقد يَكون من المُستعجِل الزَّللُ
فخفَّف السَّائق سُرعتَه وأطرق قليلا..ثمَّ قال كأنَّك لم تَسمع قوله بَعدَه:
وربَّما فات قوماً جُلُّ أمرهِمُ..مِن التَّأنِّي وكان الحَزمُ لو عجِلُوا
ولا يَزال ذلك النَّبض اللِّسانيُّ العربِيُّ حيًّا في المجتمع, ولا يَزال دافعا لكثير من محبِّي هذا الِّلّسان إلى الإقبال على البلاد لتعلُّمه..فيجب أن يَبقى حيًّا, لا في المحاظر أو المعاهد ...فحسب, وإنَّما في الطُّرُقات والمناسبات, والأسواق والمساجد..وحتَّى عند الزِّحام في سيَّارات الأجرة.. فلا يَنبَغي لهذا اللِّسان المُبين أن يكون حَرَضا في أيّ مجال أو يَكون من الهالكين.