الجبيل – علي اللغبي (الحياة)
أكد مثقفون أن تحولات المجتمع دفعت بالكثير من الكتاب للتحول من كتابة القصة إلى الرواية، وأنهم ولجوا إلى آفاق الرواية عبر بوابة القصة، فيما اعتبروا التنافسية على الجوائز، من دوافع هذا التحول، واصفين نجاح غالبية الروائيين بفضل كتابتهم للقصة. وأوضحوا في استطلاع لـ «الحياة» حول انتقال كتاب القصة للرواية، وهل فعلاً تؤثر كتابة القصة على الكتابة الروائية.
قال أستاذ الأدب والنقد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتور محمد القسومي: «لا شك في أن القصة القصيرة والرواية، كبقية الفنون، متساوية في جوهرها؛ لأنها تعبير عن المشاعر الإنسانية وتجسيد لحالاتها المختلفة. وانتقال كتاب القصة القصيرة إلى الرواية أمر طبيعي؛ فهي أم الرواية، وأغلب الروائيين الناجحين في العالم كتبوا القصة القصيرة أولاً، ثم دلفوا من بابها إلى أفق الرواية، الأرحب للتعبير عن تجاربهم ووصف تفاصـيل مشــاهداتهم، وكثير منهم هجر القصة القصيرة وظل يمارس الكتابة الروائية».
وأضاف الدكتور القسومي: «بعض كتاب القصة لم يكونوا في بداية ظهورها يدركون الفروق الدقيقة بين القصة القصيرة والرواية؛ لذلك تحولت القصة نتيجة هذا الخلط في مفهوم القصة القصيرة إلى سرد كامل لحيوات الشخصيات المتناولة؛ ومن الطبيعي في هذه الحالة أن نجد روايات تتشكل من بعض القصص القصيرة. حتى نجيب محفوظ لم يسلم من ذلك؛ فقد أشار الباحثون إلى أن بعض قصصه تكاد تكون هيكلاً عظميًّا لبعض رواياته، وبعضها يقدم صوراً ظهرت مقاربة في روايات أخرى؛ وهذا ما دعا بعضهم إلى اتهامه بعدم إدراكه في بداية كتابته للفرق بين القصة القصيرة والرواية، وأن قصصه القصيرة قد تحولت إلى روايات.
لكن نجيب محفوظ دافع عن هذه التهمة بأن القصة القصيرة لم تكن هدفه في البداية بل كتابة الرواية، وأنه حين كتب رواياته وطاف بها على الناشرين رفضوها، حينذاك أخذ موضوعات بعض القصص من رواياته التي كتبها؛ لأنه كما ذكر يريد النشر، ومجال النشر للقصة القصيرة كان أيسر».
بواعث التحول
في حين أوضحت رئيسة قسم اللغة العربية بجامعة الملك عبدالعزيز الدكتورة هلالة الحارثي أن تراجع جنس أدبي وصعود جنس آخر «هو سَنن تحكمه التحوّلات التي يمرّ بها المجتمع سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، والحديث عن تحوّل كتّاب القصة القصيرة في المملكة إلى الرواية يقود إلى تساؤلات عدّة عن بواعث هذا التحوّل.
وإن كنت أرى أنّ التنوّع في كتابة الأجناس السردية التي تحمل مقوّمات وعناصر واحدة ليس تحوّلاً يتوقّف عنده كما يحدث للشاعر عندما يصبح روائيًّا أوقاصًّا. فالبدء بكتابة القصة القصيرة هي الفكرة السياقية أو العرف والتقليد الذي يبدأ به كثير من الروائيين، وعلى سبيل المثال الروائي السعودي إبراهيم الناصر الذي كتب القصة والرواية متزامنتين وتبعه آخرون، واستمر الأمر كذلك حتى حدث التحوّل الجذري الذي جعل القصة القصيرة تفقد وهجها القوي الذي برز في الثمانينيات الميلادية بصعود الرواية السعودية في عصرها الذهبي (التسعينيات) كمًّا وكيفًا».
وحول الأسباب الباعثة لهذا الاتجاه الروائي قالت الدكتورة هلالة: «هي أسباب كثيرة لعلّ أبرزها هيمنة الرواية التسويقية وتصدّرها لأعلى الكتب مبيعًا، وتسليط الضوء عليها وعلى مؤلفيها في وسائل الإعلام المختلفة، وكذلك المنافسة الشديدة على الجوائز المخصَّصة لها كجائزة البوكر للرواية العربية، وخروجها أيضًا إلى منافذ إبداعيّة أخرى (الترجمة، السينما، المسرح)، كلّ هذه الأسباب من المسلّمات التي تحدث في كلّ مكان وليست خاصة بالرواية السعودية. لكنني أرى أنّ المملكة ودول الخليج مرّت في التسعينيات الميلادية بتحوّلات خطيرة بدأت بغزو الكويت ثمّ تحريرها مرورًا بأحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) فكان خيار التحوّل إلى كتابة الرواية التي تستطيع أن تعبّر عن خفايا هذه التحوّلات والصراع القيمي في المجتمع وآثاره، فالرواية محاكاة مخاتلة للواقع وموازية له بطريقة جاذبة تتيح رسم عوالم متباينة قادرة على جذب المتلقي والإجابة على تساؤلاته بعيدًا عن القصة التي تميل بطبيعتها للتكثيف والترميز».
فن المبهج والممتع
أما الروائي أحمد الدويحي فيرى أن العالم السردي فضاء شاسع، «يدخل في نسيجه كل الاجناس الادبية السردية قصة ومسرح ورواية، وكل جنس أدبي له خصوصياته وشروطه كشكل كتابي، وتبقى الرواية فنا شموليا يدخل في نسيجها كل الاشكال الكتابية الإبداعية قصة وشعر وفنون فلكلورية واسطورية متنوعة، الرواية بنت المدينة وعالم مواز لواقع شمولي».
وأضاف ان القصة القصيرة هذا الفن المبهج الممتع المراوغ، كانت إلي بداية التسعينات هي الفن الذي يشكل حضورا في المشهد الثقافي إلي جانب الشعر الفن الأثير في الحياة، وكانت الرواية تكتب بخجل وتصدر غالبا من المدينتين المقدستين مكة والمدينة إلى جانب كتابات الأساتذة عبدالعزيز مشري وإبراهيم الناصر الحميدان رحمهما الله من خارج المدينتين المقدستين، وكانت الرواية وهي فن كشف المسكوت عنه تعد فنا غير مرغوب به مجتمعيا، ولكننا شهدنا بعد الحادي عشر من سبتمبر انفجارا كتابيا روائيا من جميع جهات الوطن ويكتبها كلا الجنسين حتى تخيلنا ان كل شرائح المجتمع تكتب الرواية، وللحقيقة التاريخية فإن احمد الدويحي وعبدالعزيز الصقعبي وناصر الجاسم هم أول من ولج هذا العالم الكتابي ككتابة معاصرة وحديثة.
والواقع أن نصوص القصة القصيرة التي كانت تكتب قبل هذا التاريخ، كانت تنشأ بعالم روائي والوطن يعد قارة بما يمتلك من تنوع ثقافي ثري وجميل ومبهج، ولا ارى أن هناك ما يحول ونحن نعيش هذا الانفتاح، ويمنع من كتابة الرواية ومن حولنا وهم أقل منا قد سبقونا بكتابة الرواية قبلنا بعقود، والآن راويتنا ولله الحمد تجد حضورا وقبولا في المشهد الثقافي العربي، وتحصد نجاحات ودراسات في الجامعات العربية، ونأمل ان تكتمل حلقات الاجناس الادبية والفنية الاخرى من مسرح وسينما، لتشكل واقعا ثقافيا نفخر به.
الكتابة أنهار صغيرة
بدورها أشارت الكاتبة والروائية ليلى الأحيدب إلى أن الكتابة بشكل عام «أنهار صغيرة تصب في بعضها البعض، والقصة القصيرة والقصيدة النثرية والشعر بدفتيه التفعيلية والعمودية والرواية، كلها أنهار تصب في بحر الكتابة الكبير.
كتاب القصة هم الأقرب لكتابة الرواية فقد تمرسوا على رصف التفاصيل وتكثيفها ومتى ما أراد نهر الكتابة أن يصب في الرواية فالقاص يمتلك الأدوات، وهذه الفرضية قد تكون خاطئة حين يقع القاص في أغواء الموضة الرائجة ويستجيب لكتابة الرواية إرضاء لهذه الموجة، يفترض أن تكون الكتابة الروائية ضرورة فنية في المقام الأول وما لم تكن كذلك فقد يقدم القاص رواية مترهلة وهزيلة».
وأشارت متأسفة، إلى أن كثيرا ممن كتبوا الرواية «كان اندفاعهم انقياداً للضوء الذي توفره كتابة رواية، حتى دور النشر تشجع على هذا النمط الاستهلاكي للكتابة فتعرض عن نشر المجاميع القصصية والشعرية وتقول لك إن كنت تمتلك رواية فمرحبا بك.
هذا النمط الاستهلاكي في الكتابة يقع فيه كثيرون ليس من كتاب القصة فحسب بل حتى الشعراء الذين رأوا أن الشعر لم يعد ديوان العرب، والبحوث التي تقدمها الجامعات تستهدف الرواية الآن، والجوائز التي تقدم تبحث عن الرواية حتى محاور النشر في الأقسام الثقافية غالبا ما تبحث عما يخص الرواية كمحوركم الآن.
كل هذه المؤشرات حولت الرواية لغول كبير يلتهم كثير من الوقت والجهد، أملا في الظفر ببقعة ضوء لكن الكاتب الذي يتعامل مع الكتابة كضرورة فنية، لن ينخدع بكل هذه المعمعة وسيقدم روايته حين يستوي نهر الكتابة».
وذكرت الكاتبة والروائية حنان القعود أن كاتب القصة «يكون قد اعتاد على الاختزال ويوغل في رمزيته ليستطيع تكثيف الحدث وإيصال الفكرة ضمن عدد قليل من الكلمات، ناهيك عما تمتاز به القصة من محورية حول شخصية واحد غالبًا وامتداد زمني قصير، بينما الرواية تحتمل شخصيات أكثر وإسهاب ووصف وتنقلات زمانية ومكانية ومحاور قد تتخطى محاور القصة.
هُنا الكاتب (القاص) يقع في مأزق اعتياده على التكثيف فيكون الإسهاب مهمة صعبة، خشية أن يقع في فخ الحشو وترهل النص وذلك ليحقق هدف زيادة عدد الكلمات، لتصل لمرحلة يستطيع أن يسمي عمله فيها بالرواية، فيشعر حينها القارئ بالملل أثناء القراءة والسبب هو الحشو دون وجود حدث يُذكر أو أهمية لهذا السرد الذي لن يتعدى كونه ثرثرة. هذا بالتأكيد لا يعني أن كل من ولجوا للرواية عبر بوابة القصة هم غير صالحين لهذه المهمة، بل على العكس هُناك من أجادوا وأتقنوا هذا الفن باستخدام تقنية التكثيف القصصية في كتابة الرواية وأخرجوا لنا روايات محبوكة من دون ترهل، ويكونوا بذلك تجاوزوا الفخ وأخرجوا لنا عمل روائي متميز بعيد عن الحشو».
ويرى الروائي هاني حيدر أن كل كاتب للقصة القصيرة «سيجد فيها مجالا خصباً للإنتاج، إذ ان طول القصص القصيرة يتراوح بين الصفحات الثلاث والخمسين صفحة، وهو رقم قد يبدو للقارئ يسيراً جداً مقارنة بصفحات الروايات التي تتجاوز المائتي صفحة، إلا أن الحقيقة أن كتابة القصص القصيرة أصعب بكثير من كتابة الرواية»، واصفا القصة القصيرة بأنها فن التكثيف، «وتكثيف الفكرة، وتكثيف العبارة وتكثيف الحدث، تتطلب مهارات لا يمتلكها كل أحد، هي تحتاج كاتباً يمتاز بالاختزال، يضع كل حرف في مكانه الصحيح، يبني بناءً متسقاً لا مجال فيها للإضافة أو النقصان، يصنع حبكة واحدة من القوة بمكان أن تعتمد عليها القصة كلها على عكس الرواية التي تتطلب حبكتها الرئيسية حبكات فرعية تردفها، وهذا الأمور حتمت على كثير من الكتاب الفرار إلى رحابة الرواية هروباً من ضيق القصة.
من الملاحظ أن فن القصة القصيرة فن يتطلب شيئاً من الصبر والنفس الطويل، ولياقة كتابية ربما تفوق لياقة كتابة الرواية، فليس من السهل على كاتب متقد الذهن متدفق الأفكار أن يحصر أفكاره في أسطر معدودات وبجواره بحر الرواية يغرف منه ما يشاء». وختم حيدر قائلا: الرواية فن صعب لا شك وبتقديري هو أصعب الفنون الأدبية، لكن تظل القصة القصيرة هي فن النخبة، الذين يجيدون تحقيق مبتغاهم بأقصر الوسائل وأكثرها مباشرة».