57
موراكامي هاروكي :
هو كاتب ياباني من مدينة كيوتو
لاقت أعماله نجاحا باهرًا حيث تصدرت قوائم أفضل الكتب مبيعًا سواء على الصعيد المحلي أو العالمي و تُرجمت إلى أكثر من 50 لغة.
الولادة 1949م
يقول موراكامي هاروكي :
" لسوء الحظِّ عقارب الساعة تدور ، و يمُرُّ الوقتُ سريعا، ما هو ماضٍ يتزايدُ و ما هو آتٍ يقِلُّ، و ما هو مُمكِنٌ يَنقُص ، و ما نندمُ عليهِ يَتضاعف ! "
عقارب الساعة، و الوقت، و الماضي و المستقبل، كلها كلمات عامة و كبيرة
تقتات من الألم و تلبَسُ أثوابا ينسُجُها النَّدمُ من جُلودِ و أعصاب الراحلين، تُليِّنُها الدُّموعُ و تُعطِّرها الأنَّاتُ المُتلاحِقة، و لولا الذاكرة البشرية لطَمَرَ مرور الأحداث و الكوارث و الأزمات كلَّ نبراتِ التّأوُّهِ ، و عَضَّاتِ الأنامل في آخر لقَطات الغُروب !.
و العمر أو مدة الإقامة فوق سطح كوكب الأرض كان دائما موضوع نقاش طويل و عريض عبر جميع العصور و مراحل الحياة المختلفة.
و الحال أن الزمن سائر في طريقه بجِدٍّ و نشاط لا يعرِف الكلل ولا الملل، فلا تتوقف عقارب ساعته من يوم صنعها الإنسان و لم تتوقف ساعته الحقيقية من يوم وُجد هذا الكون الكبير الهائل.
كأن الفيلسوف الياباني يُصوِّر العمر كتَلٍّ من الرمل يحاول الإنسان اختراقه
و كلما يزيح شيئا يجعله وراء ظهره و هكذا يتزايد الماضي و ينقص المستقبل، و الفارق الوحيد أنه لا يُمكِنه التوقف.
فما هي حياة الإنسان؟
و ما تأثيرها على غيره؟
و متى تكون سلبية؟
و كيف تكون وضَّاءة؟
كثيرون أولئك الذين جعلوا من أعمارهم جسورا ثابتة ليمرُّ عليها الحاضر و المستقبل، و تتنوع هذا الجسور ، فمنها الجسور المشيَّدة المادية و الجسور المعرفية و الجسور القانونية و الأخلاقية و كميات من التجارب النافعة و المفيدة...
و كثيرون اختاروا أن تكون تأثيراتهم صادمة للإنسان و الحيوان و المناخ و المُحيط الجغرافي.
فهل نحاكم الإنسان بما خلَّفَ من مصانعَ و معارف و تجارب؟
أم نحاكمه بما أفسد في حياته مما شيَّدهُ الآخرون دون أن يكون له دورٌ إيجابيٌّ فيه ؟
أم نحاكِمُه بكمِّ المُمكِن الذي ضيَّعه أو تَركه يضيعُ بضياع الوقت و الجُهد؟
يتقاذف التاريخ بجميع مراحله دموع و عَبراتِ المارين عبر فصوله المختلفة، و تحمل صفحات الأدب آلاف الرسائل و الوثائق التي تحدد آلام النادمين على التراخي و التّسويف و الإهمال و اللامبالاة الغريبة، فقد سُرِقت أعمارهم و هم في غفلة و لهو مستمر ، و لم يتمكّنوا حتى من توقِيعِ محضر الذهاب النهائي، و لم يُسعفهم الوقت ليكتبوا وصية واحدة يستفيد منها الآتون و وَرثةُ الكوكب بشكل عام.
فهل سيحفظ الزمن مُرورهم ولو كرُكَّابٍ في حافلة اقتطعوا تذاكرَ رُكُوبٍ لوقت قَصير؟
ألا يستحقون التسجيلَ في دفاتر المرور بصفتهم المُهمَلة ، و هي أنّهم سَدُّوا لوقت قصيرٍ حيِّزا صغيرا من الهواء و المكان؟
ألا توجد أسماؤهم في دفاتر الصَّرْفِ العَام ، حين كانوا أصحاب حصَّةٍ من الغِذاءِ و الدواءِ و المَساكن؟
ألم يكونوا يوما من أصحاب المِلكيَّةِ المُؤقتة العامة؟
كثيرون يتّفقون دون عَناءٍ كبيرٍ على أن الإنسانَ جزءٌ أساسيٌّ من المنظومة البيولوجية و المادية لهذا الكوكب، و لكن جانبه العقلي شكَّلَ نقطةَ التَّحول الكبير، و هي ذاتُ اتجاهين مُتعارضين في الفعل و القوة و الهَدف،
فهناك اتجاه جديد يتعارض مع مَسار المَنظومة الطبيعية و خصائصها الذاتية، و قواعدها البُنيَوِيَّة، و هذا الاتجاه يُشكِّلُ أكبرَ الأخطار الوُجودية التي تُهدد الحياةَ في كلِّ مراحلها السابقة، فهو قد لا يكتفي بتشويهها و تَلويثها فقط، فقد يتجاوز ذلك إلى المساعدة في انهيارها التام ،
و اتجاه آخر يحترم مسارَ المنظومة رغم احتفاظه بنفس الأخطاء و المخالفات التي تعاملت معها المَنظومة في الماضي و الحاضر المَشهود، بالتصحيح مَرَّةً و التَّكيُّفِ مراتٍ .
تطرح الفلسفة اليابانية التي ينتمي إليها الفيلسوف و الكاتب موراكامي هاروكي أسئلةً مُستقبلية كبيرة دائما
، هي أسئلة لا تُهمل الماضي لكنها تنظر إليه من زاوية الخسارة ، و ليس من زاوية التقدير و التقديس و الإشادة، خلافا لشعوب كثيرة تستنسِخ الماضي و تُعلِّبه و تُقدِّسه لتجلس حقبا من أعمارها و هي تنظر إليه و تُمعن النّظَرَ و التحديقَ حتى تفقد معه جزءا من الحاضر الراهن،
و هذه الشعوب بتقديسها المُطلق للماضي حتى ولو كان عثراتٍ و ثغراتٍ و كبَوات، فهي لا تَعلَم أنها بذلك تفتِلُ قيودا من الماضي المُبَجَّل ، قيودا تُحُدُّ من حريّتها المستقبلية و تمنحها حق الدوران في دائرة مُغلقة، دائرة أرضيتها ألِفت تلك الأقدام و سمعت نفسَ الشعارات و عاينت نفسَ الوجوه، مع اختلاف جِذرِيِّ ، إنه اختلاف التوقيت والمسرح و المُمثلين مع الاحتفاظ بالكتاب و السيناريوهات و مُخرجين مُتشابهين.
و السؤال المطروح:
إلى متى نُضيَّع الوقتَ - الذي هو أهمُّ ما نملكُ - في مهاترات و مناكفا