أ.د. عبد الله السيد (*)
لشهر رمضان دلالات عميقة في الثقافة العربية، وفي السلوك الاجتماعي للمجتمعات الإسلامية عمومًا؛ لا لكونه أفضل شهور السنة وأعظمها، ولا لأنه شهد أحداثًا كبيرةً على مر التاريخ غيّرت حياة البشر، وحسب، وإنما لأن مختلف مظاهر الثقافة اعتنت به، مبرزةً رؤى مختلف فئات المجتمع للصوم بين العبادة والعادة؛ ويكفي هنا أن نقف عند ربط مفهوم هذا الشهر بشدة الحر.
فعند معاينة الجذر اللغوي للمادة الاشتقاقية التي يتكون منها اسم هذا الشهر، وهي (ر، م، ض) كانت خلفية ارتباط هذا الشهر بشدة الحر موجها رئيسا للغويين؛ فقالوا: إن "رمضان" مأخوذ من "الرمض" الذي هو شدة الحر، وإنه سمي بذلك لشدة "حرارة جوف الصائم فيه من العطش"، أو "لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها"، وإن واضع التسمية الأول حين نقل أسماء الشهور عن العربية القديمة وافق هذا الشهر شدة الحر فسمي بذلك عوضا عن اسمه القديم (ناتق) أو (ناثر)...
وتكمن طرافة هذه المادة في ملامستها للصلة بين الدال والمدلول ملامسة تخرجها عن الاعتباطية السوسيرية، وفي الإيحاء كذلك بأن مفهوم "رمضان" الديني قديم في الثقافة العربية.
ولم يكن اللغويون معتمدين هنا على الشعر العربي قبل الإسلام لأنه، حسب علمي، لم ترد فيه كلمة "رمضان"، وجاءت كلمة "الصوم" فيه خالية من أي معنى ديني؛ بل ومرتبطة بالحيوان في حال إمساكه عن الصهيل أو العلف، كما في قول بشر بن أبي خازم:
وما تسعى رجالهمُ ولكنْ فضولُ الخيل ملجمةٌ صيَـــام
وفي قول النابغة الذبياني في قوله:
خيل صيام وخيل غيرُ صائمةٍ تحت العجاج وأخرى تعلِك اللجما
غير أنهم كانوا على علم بالأخبار والأحاديث الشريفة التي تثبت أن الصوم بمعناه الاصطلاحي كان معروفا عند الجاهليين، حيث كانوا يصومون يوم "عاشوراء" (10 محرم) وهو اليوم الذي تكسى فيه الكعبة، وكان بعضهم يصوم الأيام الثلاثة المضيئة من كل شهر وهي أيام (13 ، 14، 15)، وقد أوجبت السنة هذا الصوم قبل أن يفرض صوم "رمضان" في السنة الثانية من الهجرة؛ حيث أضحى صوم هذه الأيام من الأمور المستحبة.
وقد كانت شدة الحر أيضا سببا في تخلي الديانات الأخرى عن صوم رمضان؛ فقد ذهب المفسرون إلى أن "رمضان" فرض على كل الأمم قبل أن يفرض على المسلمين، إلا أن الأمم حرفت صومها فغير بعضها فترة صومه تجنبا لحر رمضان، وكفّر عن ذلك بزيادة فترة الصوم لتكون أكثر من شهر؛ وذلك عند وقوفهم على قوله تعالى " كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات".
ومن الطريف ما تورده المصادر من نوادر "الأعراب" وقصصهم المرتبطة بمعاناة الصوم في شدة الحر؛ لدرجة جعلت بعضهم – والعياذ بالله- يفضل العذاب على تحمل العطش.
ومن ذلك أن أعرابيا جاء عينا صافية في شهر رمضان فشرب منها حتى روي، ثم رفع يديه إلى السماء مخابطا الله عز وجل قائلا:
إن كنت قدرت الصيا م فاعفنا من شهر آب
أو لا فإنا مفطـــــرو ن وصابرون العــــــذاب
نعوذ بالله من حال من بدل دينه خوفا من العطش، ونحمده على ما نحن فيه من نعم؛ راجين أن تكون مناسبة لنا لرؤية هذا الشهر العظيم بما هو أهل له من إشاعة التسامح، والتراحم، والمودة، والدفع بالتي هي أحسن، والصبر عند الابتلاء، والصلح بين الناس...
____
(*) مثقف وأكاديمي موريتاني كبير ومدير بيت الشعر في نواكشوط